خطاب الوعظ الحداثي هو آخر صرعات المقاربات والتحليلات، لدى بعض الحداثيين الحقيقيين الأصلاء، وكل الحداثيين المزورين الدخلاء، عند أي جريمة أو ظاهرة مجتمعية سلبية، تطفو على السطح. (حادثة اغتصاب الأطفال لحمارة سيدي قاسم، وحادثة اغتصاب الحمير لفتاة الدار البيضاء، نموذجا).
من سمات هذا الخطاب أنه ديماغوجي انتهازي متناقض حافل بالمغالطات والتهويل والإطلاقات، يستغل كل واقعة وكل مأساة، ليركب عليها، ويصفي حساباته السياسية أو الأيديولوجية والعقدية، من خلالها. وقد يمرر من خلالها مغالطات بحجم تلك الجريمة موضوع التعليق.
بعض من كانوا يصفون كل تدخل من المواطنين، بأنه شرع اليد، وشرطة الأخلاق، وعقلية طالبان، كتبوا تدوينات كثيرة الآن تستنكر عدم تدخل المواطنين، من أجل إنكار المنكر.
تدوينات أخرى تزن الثقافة الدينية بموازين مختلة ومعايير مزدوجة، فمن جهة، الثقافة الدينية عندهم، لها دور كبير في الإرهاب وفي كل الشرور التي تقع، وعند كل حدث مرتبط بالإرهاب، يتم وضع جثة التراث على المشرحة وإعمال المبضع فيها تقطيعا لأطرافها وتمزيقا لأوصالها، ومن جهة أخرى لا دخل للثقافة الدينية في تهذيب السلوك المشين، ومن يربط بين ضعف الثقافة الدينية وما حدث من اغتصاب لفتاة الحافلة، فإنه يمارس نوعا من التسطيح، ويصرف حديثا مستهلكا. والنتيجة أن الثقافة الدينية تفسد الناس ولا تصلحهم أبدا.
بعض تلك التدوينات عقدت مقارنات سطحية وساذجة، وأجرت إسقاطات غريبة، أوصلتها لنتائج مفادها، أن الغرب لا يعرف مثل هذه الظواهر رغم غياب الدين.
وهذا الوعظ المتناقض، تجاهل اختلاف ثقافات المجتمعات، وما يؤطر ويؤثر في عقلها الجمعي، وأن ما يؤثر في مجتمع لا يؤثر بالضرورة في آخر، لكن لاشك أن لكل مجتمع سلطة معنوية من دين أو أعراف وغيرها تحمل أفراده على سلوكات معنوية، ففي الحرب مثلا يمكن أن تحشد جيوش دولة غير مسلمة وتشحذ همم عساكرها بمعان مرتبطة بتاريخهم وهويتهم وثقافتهم. لكن يكفي في المسلمين أن تقرأ عليهم نصوصا في فضل الجهاد والشهادة، ولا يمكن لمتفلسف أن يدعي أن جيوش الدول غير المسلمة تجمع وتحشد بدون نصوص فضل الجهاد والشهادة تلك، وأنه لا أثر للثقافة الدينية في الحشد والتجييش بإطلاق، وأنه يمكننا التخلي عن ثقافتنا تلك، وتحميس جيوشنا بما تتحمس به تلك جيوش تلك الدول.
إن دور الدين في تقويم السلوك، وإدماج الفرد في المجتمع، مما تعززه وتؤكده علوم عديدة، من سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا وإثنولوجيا وبسيكولوجيا… ولا ينكره إلا صاحب خطاب وعظ حداثي.
هذا الوعظ المتناقض، غض الطرف عن حقائق إمبريقية حسابية إحصائية، عن دراسات علمية واقعية حقيقية، تعطي بالملموس، معدلات الاغتصاب والاعتداء والتحرش والمضايقات الجنسية، ضحاياها نساء وأطفال وحتى عجائز ورجال، في أمريكا وكندا وأستراليا وأوربا، وتعتبر السويد على رأس لائحة دول العالم في ذلك.
بل قالت تدوينة من التدوينات أن مئات الحفلات تقام في أوربا يحتسي فيها الشباب أنواع الخمور، ولا تسجل فيها حالة تحرش واحدة فضلا عن الاغتصاب،
وأنا أجزم أن صاحب هذه الموعظة، أخذته نشوة سكر، فقال كلاما هو متأكد أنه غير صحيح، وإلا فإنه يدعي قصد أم لم يقصد أن هذا المجتمع ملائكي، فكيف ينكر الخطاب الإسلامي الطهراني المثالي، ويقع في الخطاب الحداثي الطهراني المثالي، الذي تكذبه التقارير والإحصائيات، إنه فخ الاستقطاب ونشوة خطاب الوعظ الحداثي، الذي يصور الحداثة جنة.
وهذه بعض أرقام تلك الإحصائيات:
إحصائيات 2015: 20% من جميع نساء أمريكا تعرّضنْ للاغتصاب، يبلغ تعدادهن حوالي الـ32.2 مليون امرأة، وهو عددٌ أكبر من عدد سكّان السعودية.
أمّا عن التحرّش الجنسي، فقد تعرّضت 88% من الأمريكيات إلى التحرّش الجنسي مرّة واحدة على الأقل في حياتهن. 25% من هذه الحالات كانت على الأقل من قبل زميل في العمل.
الاعتداءات الجنسية لم تقف عند النساء، بل حتّى إنّ 2% من جميع رجال أمريكا تعرّضوا للاغتصاب. وهو ما يقدّر بحوالي 3 مليون رجل أمريكي. وعلى مدى حياة الفرد، يتعرّض 43.9% من نساء أمريكا و23.4% من رجالها إلى أشكالٍ أخرى من الاعتداءات الجنسية خلال حياتهم.
القاصرون يتعرّضون أيضًا للاعتداءات والتحرّشات الجنسية في الولايات المتّحدة. 25% من جميع فتيات الولايات المتّحدة و15% من صبيانها يتعرّضون للاعتداءات الجنسية قبل بلوغهم الثامنة عشرة من العمر. 34% من هؤلاء المُتحرّشن بالأطفال هم من ضمن نطاق العائلة نفسها.
في 2012، كانت السويد صاحبة لقب أكبر معدّل اغتصاب في العالم بأسره. (66.5 حالة في كل 100.000 نسمة). لم يكن هناك كثير من اللاجئين العرب لتحميلهم مسؤولية الاحتباس الحراري!
الدنمرك تلي السويد في نسبة المضايقات الجنسية التي يتعرّض لها نساء القارّة. 80% من نساء الدنمرك تعرّضنْ للتحرش أو المضايقات الجنسية مرّة واحدة على الأقل في حياتهن، وهو معدلٌ يفوق ذاك الموجود في الهند أو باكستان (70% في الهند و50% في باكستان). على نفس المنوال تأتي فرنسا (75%) وهولندا (73%) ثمّ فنلندا (71%) وبريطانيا (68%). أمّا متوسّط معدّل المضايقات الجنسية والتحرّش العام في القارّة فهو 55%.
أمّا عندما يأتي الأمر إلى الاعتداءات الجنسية الجسدية، فالأرقام ما تزال مرتفعة مقارنةً بغيرها: 52% من نساء الدنمرك، 48% من نساء فنلندا و46% من نساء السويد تعرّضنْ لاعتداء جنسي مباشر على الأقل مرّة واحدة في حياتهنْ. متوسّط الاعتداءات الجنسية الجسدية في القارّة هو 33%.
التحرّش بالقاصرين حدث ولا حرج: 51% من فتيات فنلندا، 48% من إستونيا، 44% من فرنسا و43% من لوكسمبرغ تعرّضنْ لاعتداءات جنسية قَبل أن يبلغوا الخامسة عشرة من العمر من قِبل بالغين.
في الختام
نختم بموعظة الثقافة الجنسية، الحل السحري لحوادث الاغتصاب، في الخطاب الوعظي الحداثي.
في الوقت الذي لا يمكن للثقافة الدينية أن يكون لها أي أثر في تقويم السلوك الفردي، ولا يمكن أن تحد من جرائم وظواهر كالاغتصاب مثلا، فإن الثقافة الجنسية هي التعويذة التي تحمي شبابنا من أن تجتالهم عفاريت الاغتصاب، وتستهويهم شياطين الانتصاب. طبعا لن يتطوع واعظ من هؤلاء الوعاظ لكي يشرح لنا كيف تقي الثقافة الجنسية من حوادث الاغتصاب، لأنه يلقي موعظة حداثية لأغراض أيديولوجية.