مضت أكثر من ثلاث سنوات على ليالي رمضان بمسجد الفتح بحي سيدي موسى بمدينة سلا، والذي كان دوما يعتلي منبر وعظه خطباء ووعاظ على مدار أيام الأسبوع.. اليوم وقد مرّ ثلث رمضان (عشر ليال)، ولا درس واحد قدم للمصلين!!
نعم، لقد كان هذا المسجد يشهد طيلة أيام رمضان، دروسا منوعة بين السيرة النبوية والفقه، ودروس الوعظ، بل وفي أغلب أيام الأسبوع طيلة السنة.. وكان الشيخ يحيى المدغري أحد أعمدة منارة هذا المسجد، الذي يعتبر أعرق مسجد بالحي، والأكثر حضورا على مستوى التدين وحضور الشباب، والامتلاء بالمصلين.
وقد سألت عن دروس الوعظ بالمساجد، في رمضان، عن طريق حسابي في “فيسبوك”، فكانت أجوبة أكثر المعلقين أنهم لاحظوا غيابها ومنهم من تفاجأ بذلك، وحتى من ذكر أنها موجودة، ذكر أن ذلك على سبيل “المبادرات الفردية”، والقلة التي ذكرت وجود الدروس، ذكرت ذلك على صفة الإجمال.
فأين هي مشاريع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تشتكي رفقة المجلس العلمي الأعلى، فقدان المسجد لدوره في تأطير المغاربة، وتوجيههم وتعليمهم أحكام دينهم، وحمايتهم من المخاطر المهددة لأمنهم الروحي، وصيانتهم من عوامل التعرية الأخلاقية والسلوكية؟!
ألم تعتمد وزارة الأوقاف مع “مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني” بإشراف الوزير أحمد التوفيق، على تخريج مئات وربما آلاف من القيمين الدينيين؟! فأين هم هؤلاء الكوادر والطاقات، التي كان يستشرف من ورائها إحياء المساجد ودورها التي كانت تقوم به؟!
أليست قد صرفت من أموال المسلمين (موارد الأوقاف) ملايين الدراهم على هؤلاء، لأجل تكوينهم، ولا زالت تصرف عليهم لأجل رواتبهم؟! فأين هم من إعمار المساجد بذكر الله وذكر سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم وبتعليم العلم الشرعي؟! أم فقط رضي أن يكتفي عدد منهم بدور المراقب للمساجد (مْقدَّم وزارة الأوقاف)؟!
لقد كنا نظن أن كل فوج يتخرج من معهد تكوين القيمين الدينيين سيكون إضافة نوعية وكمية لتنشيط العمل الدعوي والعلمي، في المساجد المنتشرة في ربوع المغرب، لكن للأسف كل سنة، بل وكل شهر إلا ويزداد تجفيف المساجد من حملة مشعل العلم والوعظ والتربية؟!
لقد كان لسياسة الوزير أحمد التوفيق في تدبير “الشأن الديني” في المغرب باعتماده لسلطة ومنهجية إدارية لا تراعي للعالم حقه، ولا للخطيب فضله، ولا للإمام حسن سلوكه وعلاقته الطيبة مع المصلين؛ الأثر السلبي في إضعاف العلماء والخطباء والوعاظ والقيمين الدينيين لا على مستوى الحضور في المساجد ووسائل الإعلام، ولا على مستوى تغييبهم من تسجيل المواقف الوطنية وحتى الدولية، اهتماما بقضايا الناس ومعايشهم، ودفاعا عن قضايا الأمة ومساندة مشاريع الإصلاح والمدافعة ضد أعدائها ومشاريعهم الهدامة.
نعم، لقد تم توقيف مئات الأئمة والخطباء.. وعشرات العلماء والدعاء الأفاضل الذين سجلوا مواقف مشرفة في استنكارهم لصور من الفحش والرذيلة (بنشقرون، الخمليشي، أبياط، الموهري.. وآخرون كثر)، أو الدفاع عن شعوب من الأمة مكلومة (قراط)، أو قالوا الحق لكن الوزارة أعفتهم لأنهم الحلقة الأضعف بعد استنكار علماني منحرف لمواقفهم وأقوالهم (يحيى المدغري نموذجا).
هذا الهدر المنبري (الإعفاء من الخطابة (المنبر))، كان الناس دوما يرفضونه، بل احتجوا مرارا ضده (مثل الاحتجاج عند عزل الشيخ أبياط بفاس)، واستنكروه، واستغربوا إقدام الوزارة عليه، بالرغم من أنهم يستفيدون من العالم أو الخطيب ومن إنتاجه العلمي والوعظي، ومع ذلك كانت الوزارة دوما لا تلتفت إليهم، والوزير الوصي عليها، يعتبر نفسه ووزارته فوق كل نقد أو محاسبة!!
إن ضعف أنشطة المساجد، يرجع بالأساس إلى سياسة الوزير وإلى مناديبه في كل المدن، الذين يسهمون في نفور الناس وزهدهم في مجالس العلم والوعظ، وذلك بإبعاد المؤهلين ممن هم متعلقين بهم ويحبونهم، واستبدالهم بمن هم دونهم أو بإفراغ المنبر (القصد منبر العلم والوعظ وليس منبر الجمعة) من فارسه، وإهماله ورميه مع سقط متاع المسجد.
وأما ثالثة الأثافي، فهي تعطيل مشروع الكراسي العلمية، بدعوى إعادة هيكلته وإعداد حلة جديدة له، وقد مر الآن على الأجل الذي ذكرت الوزارة لعودة أنشطته ثلاثة أشهر (خمسة أشهر على توقفه)، وهو ما يعتبر مؤشرا على خطورة الوضع، فتعطيل دورس الوعظ أو تقليلها له الأثر السلبي على عامة الناس، أما توقيف الكراسي العلمية (وهي بادرة جاءت بعد تغييب تدريس العلم الشرعي بالمساجد) فضحاياه هم طلبة العلم والباحثون وطلبة المعاهد والجامعات، الذين يمثلون النخبة التي ستخرج لنا العلماء والدعاة في المستقبل!!
فأي مستقبل يعدنا به الوزير أحمد التوفيق للشأن الديني بالمغرب؟!
وأي مستقبل للعلم الشرعي ودروس الوعظ وخطبة الجمعة (التي بدورها فقدت قوتها) في مغرب ما بعد أحمد التوفيق ومشروعه التساوقي بين الإسلامي والعلماني (لصالح الأخير)، وخطة إعادة هيكلة الحقل الديني بعد تمام عقدين عليها؟!
اللهم سلم سلم..