لقد وقف كثير من رجال الدين المسيحي في وجه العلم في بدايات العصور الوسطى، فبعد أن كان مصدر المعرفة هو الكتاب المقدس والذي يتبنى نظرة للوجود قوامها ما يلي:
- الأرض هي مركز الكون، وحولها تتحلق وتدور بقية الكواكب.
- يعتبر الكتاب المقدس هو الأداة التي نعرف من خلالها بداية خلق الإنسان، ونهاية الكون.
- الله هو خالق الكون على غير مثال سابق وهو المتحكم في قوانينه وأسراره، لذلك فالكون يسير وفق خطة إلهية ضمن أهداف وغايات محددة سلفا، لذلك على الإنسان الثقة في علم الله وحكمته بدل الاعتماد على عقله وتفكيره، ويعتبر رجال الدين وسطاء بين الله والبشر لبيان هاته الخطة الإلهية في الخلق والتدبير.
هذه النظرة جعلت رجال الدين المسيحي في مركز الصدارة، من خلال منحهم السلطة والثروة، فهيمنوا على المجتمعات الأوربية وتحكموا في عقلها الجمعي انطلاقا من غريزة الإنسان وميله للتدين.
لكن هذا البناء سقط على رؤوس أصحابه مع صدور كتاب “كوبرنيكوس” في دوران الأفلاك، بحيث بين فيه أن الأرض ليست هي مركز الكون بل مجرد كوكب تابع يدور حول الشمس، ليدخل في صراع مرير هو وزملاؤه من العلماء مع الكنيسة وكهنتها.
وبعد اكتشاف إسحاق نيوتن لقوانين الحركة وقانون الجاذبية تجلى العالم كساعة تعمل تلقائيا دون الحاجة لتدخل قوة خارجية، وإن كان نيوتن قد أبقى دورا للإله من خلال تدخله لتعديل مسارات الكواكب بين الفينة والأخرى، فإن الفلكي الفرنسي “ماركيز لا بلاس” بين أن هذه الانحرافات التي تحدث على مستوى الكواكب تلغي بعضها بعضا وفق نظام دقيق دون الحاجة الى تدخل خارج عنها، من خلال حتمية “لابلاس” التي تعني أن الكون يخضع لقوانين طبيعية صارمة.
هذه الثورة العلمية كان لها أثر مدمر على المسيحية، ونتج عنها نزعة شكية وإلحادية كبرى، بسبب تعنت رجال الدين وتشبتهم بأفكارهم العتيقة من غير حجة ولا برهان، رغم تعارضها مع المسلمات العلمية، مما جعل القرن الثامن عشر عصر شك في اليقينيات التي كان يستند إليها الناس.
فهل هناك مبرر عقلي ومنطقي لهذه النزعة الشكية الإلحادية، أم أنها كانت مجرد ردة فعل نفسية وفلسفية لتعنت رجال الدين ووقوفهم غير المبرر أمام النظريات العلمية الجديدة؟
الحقيقة أن النزعة الشكية التي رافقت الثورة العلمية، لم تكن ذات طبيعة علمية، بقدر ما كانت ردة فعل نفسية وفلسفية على تعنت الكنيسة والاضطهاد الذي مارسته في حق رجال العلم وهو ما سيؤدي لاحقا إلى اتخاذ مجموعة من العلماء موقف عدائيا من الدين، لتتلاشى بذلك النظرة الكنسية التي ترتكز على الإله الحافظ الذي يهتم بنا ويرعى شؤوننا، فبعد أن نجح العلم في تفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها فقدت الحاجة للبحث عن الغايات والأهداف، واعتبرت تفسيرات رجال الدين مجرد تُرهات وكلام فارغ، وبذلك اعتبر النجاح في تفسير الظواهر الطبيعية عن طريق العلم، اختفاء الغائية من خلق الكون، وبهذا سيتم طرد مقولات الإله الخالق وبالتالي لم يعد هناك حاجة لأي منظومة أخلاقية يضعها الله، بل أصبحت الأخلاق والتشريعات تأخذ معناها من المصالح المادية العاجلة للبشر.
ومع الإنجازات المبهرة التي قدمها العلم للإنسان بما يسّر له حياة الغنى والرفاهية تبدلت عقيدة الإنسان المعاصر من الإيمان بالله إلى الإيمان بالعلم كمحدد وحيد وأوحد لحياة الإنسان المعاصر، هاته العقلية ستقود الكثيرين في القرن الثامن عشر إلى الشك، مما جعل البعض يعتبر العقل المادي الحديث إفرازا للثورة العلمية، ولكن المصيبة الكبرى أن هذه النظرة ستنتقل إلى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وستنتج عنها مدارس وحركات اجتماعية تتزعم حركة الإلحاد وتدعو للقطيعة مع الدين، بل سيتمادى بها الأمر إلى الزعم بموت الإله.