إن من أعظم مصائب العالم الإسلامي منذ قرون هو انفصال القرآن عن السلطان، بفعل اختراق هائل من طرف الدول الغربية للمجتمعات الإسلامية.
ترتب عن ذلك كل ما شهدته أقاليم العالم الإسلام خلال قرنين من الاحتلال الغربي، والذي أرسى فيها قواعد دول حديثة مبنية على تصوره المادي للكون والإنسان والحياة (العَلمانية)، بعد أن أسقط نظام الخلافة التي كانت تجمع بلدان المسلمين وتوحد بينهم وتذود عن حياضهم.
ولعل أبرز مخلفات الغزو الغربي تتمثل في: تقسيم المسلمين إلى دويلات صغيرة، وزرع كيان صهيوني في قلب دول المسلمين، ومسخ مقومات الهوية الإسلامية بمزاحمتها بالتصورات والمعتقدات العلمانية، ومحاربة كل الصلحاء من مصلحي الأمة أن يصلوا إلى دفة تسيير الحكم في بلدانهم، ودعم الفاسدين والمستبدين لاستمرار سريان التوافق المبني على حماية المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لدول الاحتلال، بعد خروجه العسكري منها غداة الاستقلالات المنقوصة، التي تمت في زمنٍ رَفعَت فيه الدول الإمبريالية شعار “تصفية الاستعمار” الذي انتهت صلاحيته بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة ليبدأ تطبيق مفهوم “الاستعمار الجديد” والذي نعيش في ظله ذي الثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من لهب الاستغلال والاستنزاف.
الغريب أن يُطلب من العالِم اليوم أمام كل هذه التراكمات من التطورات التي حصلت على مستوى بنيات الدولة الإسلامية أن يعطي الحكم الشرعي (الفتوى) في مسألة مثل التطبيع، وكأن الدول القائمة اليوم تقيم الشريعة الإسلامية في شأنها الوطني، الأمر الذي يجعل استعمالها للعالِم وتوظيفها للفتوى مجرد آلية لضبط ردود فعل الشعوب الإسلامية، من خلال إضفاء الشرعية على قرار سياسي لا علاقة له بالأحكام السلطانية في السياسة الشرعية التي هي جزء من نظام الحكم في الإسلام.
لذا تقفز أمامنا أسئلة من قبيل:
هل يوجد للمسلمين ولاة أمور بالمعنى الذي ذُكر آنفا حتى تناقَش مسائل السياسة الشرعية في إطار موجود لا مفترض؟؟
وهل يوجدللمسلمين في نظام الحكم هيئة مستقلة للعلماءتشارك في الحكم حقيقة، تتألف من أعضائها مؤسسة “أهل شورى الحكام”حتى تحال عليها مثل هذه المسائل؟؟
وهل يُلم العالِم المنفرد اليوم بكل تضاعيف وروابط ومستلزمات القضايا السياسية الدولية حتى يفتي بما تقتضيه المصلحة الشرعية في القضايا التي يفرضها الصراع الدولي مثل “التطبيع”؟؟
أم يبقى العالم في دولة مثل الإمارات وكذلك -غيرها- مجرد موقع “بالعطف” يتبع المقرر الحقيقي المعطوف عليه والذي هو في الواقع “الحاكم” الذي أثبت الواقع نفسه أنه لا يلجأ إلى العالم إلا ليواري سوأته، ويتخذ من علمه ووجاهته مناديل يمسح بها آثار فساد قراراته السياسية، وما رأيناه في بلدان الانقلابات المضادة وقضية التطبيع خير دليل على ذلك..
فالعالم مسكين إن أفتى بالتطبيع سمي من علماء السلاطين وسقطت أهليته عند العامة من الشعوب، وإن قال بالعكس وانتصر للشرع وما يقتضيه علمه نبذه الحكام، وعاقبوه وربما قتلوه.
إنها أسئلة محرقة، لشغاف قلب كل مسلم ممزقة ولعقل كل نزيه من النخبة مقلقة.
لكن إذا كان هذا هو الواقع فهل يجب السكوت والخنوع؟؟
بالطبع.. لا!
لكن..مَن يتكلم؟؟
هنا ندلف مكرهين إلى موضوع هام آخر وهو موضوع الفوضى العلمية، التي تنتج لدى المسلمين كل مظاهر اليأس: فينقسم المنتبهون منهم رغم قلتهم إلى أقسام مختلفة متصارعة:قسم متنوع متفرق بين مداخلة وإخوان وسلفيين وصوفية، وقسم آخر سِمته أيضا التشتت والتناحر وتمثله الأحزاب والمنظمات التي أصبحت فلسطين والقدس تحتل مرتبة آخر اهتماماتهم، لذا صارت تتباين المواقف حسب رؤوس الطوائف ومواقفها، وحسب برامج الأحزاب وأيديولوجياتها؛ بل بعضهم صار يرفع دون خجل شعار “تازة قبل غزة” في أوج القصف الصهيوني للقطاع بالفوسفور والقنابل المدمرة المحظورة، وكأن لدينا تعارضا بين الانتصار للقضايا القومية والوطنية.
وهذا الانشطار والتشظي والتناحر هو أيضا من آثار انفصال القرآن عن السلطان، إذ لو كانت لكل دولة طبقة من علمائها، لهم المكان الأعلى في الشورى وتنظيم الناس وتأطيرهم دينيا ودنيويا، لكان الأمر مختلفا، ولكان الأتباع قوة بدل كونهم اليوم من عناصر الضعف والتخلف والتنازع.
فلا مكان للعالم في دولة ما بعد الاحتلال، إلا في الأمور التعبدية ولا شأن له في السياسة الخارجية، بل لا يسمع رأيه حتى في القضايا الداخلية أيضا مثل بيع الخمور والزنا والقمار وما تعلق بقضايا الأخلاق والآداب العامة خصوصا إذا تعارضت مع التصورات العلمانية.
إن الواقع لا يرتفع إلا بواقع مثله أو أقوى منه في التأثير والقوة، وهذا الواقع الذي تعيشه الشعوب الإسلامية اليوم لن يتغير إلا بـ”واقعجديد”وهو ما ينبغي إيجاده بالشراكة بين الدولة وكل الفاعلين النزهاء المخلصين، وهو أيضا ما يجتهد أعداء الأمة في نسف لبناته قبل أن يكتمل بناؤه، فيتدخلون بالتفجير والتقتيل والسجن والتعذيب، فمن يموت من القادة في السجون ومن يغتال في جنح الظلام، ومن يقتل أدبيًا في الإعلام وحملات التشهير، كل ذلك من مستلزمات هدم “الواقع الجديد”، الذي يأمل المسلمون أن يعيد الاعتبار إلى الدين وأهله، ويحقق اليقظة والنهضة والتطور؛ وهو الذي تخشاه أمريكا وأوروبا، فالحرب العالمية ضد الإرهاب، والتي بدأت بالحرب العالمية على القاعدة والسلفية الجهادية، واختتمت بالحرب العالمية على الإخوان وانقلابات ما بعد الربيع العربي، هي كلها لهدم لبنات “الواقع الجديد” الذي كافحت الأمة بدعاتها وعلمائها ومصلحيها وأتباعهم طيلة مرحلة ما بعد إسقاط الخلافةلبنائه، فبينما ظل الناس ينتظرون كماله، إذ بهم أصبحوا اليوم وقد نسف أغلبه.
إن قضية التطبيع آتية لا محالة، فقد بدأت مع “سادات”مصر في “كمبديفد” مرورا بوادي عربة مع الأردن وفي أسلو مع ياسر عرفات، واليوم هي في محطة الخليج مع الإمارات والسكة طويلة ومحطاتها متعددة رغم أنف الشعوب.
وهذا ليس يأسا أو تشاؤما، كما لا يعني -أبدا- التسليم للتطبيع والمطبعين، فالأمة لا بد أن تقاوم وترد كيد الأعداء والمنهزمين من المنافقين والخونة، وإنما أقول ذلك من باب الواقعية المعتدلة التي تجعل الإنسان على استعداد لمواجهة ما سيأتي بعد التطبيع بالعمل والمشاريع لا بالهتافات والعاطفة.
فمواجهة مرحلة ما بعد التطبيع يجب أن تكون من الآن بوعي جديد، ومن خلال مشاريع وأعمال على الأرض، تختلف عما كان قبل.
والوعي الجديد يقتضي منا وعيا بذاتنا وحجمها أولا وبواقعنا ثانيا، فإن حصل للأمة وعي بذاتها وواقعها عرفت تاريخها وأمجادها وقدرت قوتها وما تستطيع إنجازه وعلمت أعداءها وقدرت قوتهم واستبانت خونتها وعلمت كيف تكبتهم، وعملت من أجل مقاومة مشاريعهم وجهاد عدوانهم.
إن الإيمان والحماسة والاعتداد بالهوية من أسس المقاومة والممانعة لكنها لا تكفي، إذ على كل العاملين أن يستمروا في العمل ويطوروه وفق المستجدات، ويعملوا على إنشاء المؤسسات لاستئناف بناء “الواقع الجديد” ومواصلة إصلاح ما خربه الأعداء خلال العقدين الماضيين، واستكمال عملية استنهاض الأمة، فالعدو يطمح إلى هزيمة المسلمين النفسية، لعلمه أن دينهم هو مصدر قوتهم التي يسترجعون بها الأوطان ويفتحون بها البلدان وهويتهم هي ما يجعلهم يستعصون على عملية “التذويب الحضري” والتي تستعمل في مفاهيم شتى لا يمكن اختزالها في العولمة أو العلمنة أو الحداثة المقولبة أو الديمقراطية الموجهة، فالتطبيع يستغل إعلاميا وسياسيا وثقافيا ودينيا لتحفيز عملية “التذويب الحضاري” حتى يسقط باقي البنيان.
إننا يجب أن نقرأ “التطبيع” في سياقه السياسي الممتد وسيرورة الأحداث التاريخية، ففلسطين لم تخرج من الاحتلال يوما ولَم يخرج منها لحظة، فالصليبيون خرجوا وأعطوا البلاد للصهاينة، واستطاع هؤلاء أن يسقطوا الخلافة ويبنوا في أقطار الأمة حكومات وظيفية بعد أن بنوا لهم دولا حسب خريطة سايس وبيكو ووفق مصلحة الكيان الصهيوني المستقبلية الذي يوجد “التطبيع” ضمن أهم أولوياته.
فإذا كانت الصهيونية تدير دولة مثل أمريكا وتتحكم في دول مثل بريطانيا وفرنسا، وتعتبر لوبياتُها هم أهل الحل والعقد فيها، واستطاعوا أن يجعلوا أمن “إسرائيل” من أمنهم القومي، وبقاءها واكتمال بنيانها جزءً من نبوءاتهم، ومقتضى من مقتضيات دينهم، فكيف يمكن أن نتحدث عن استمرار عدم التطبيع في ظل واقع المسلمين الذي نعرفه جميعا؟
إن الرهان على قوة الشعوب الإسلامية وممانعتها في ظل غياب مؤسسات لاستكمال عملية الإيقاظ هو رهان خاسر، خصوصا مع عدم الأخذ بالاعتبار آثار ثورة الإعلام البديل (وسائل التواصل الاجتماعي) على القناعات ودوره في تفتيتها، وتحويل شباب الأمة إلى قوة افتراضية لا أثر لها على الواقع، وحتى وإن كان لها أثر فيكون غالبه في ما يخدم مخططات الغرب كما وقع خلال الانقلابات المضادة.
إن العاملين للمستقبل الإسلامي يحتاجون إلى إعادة ترتيبٍ ضرورية لأوراق القضية، حتى تستبين الرؤيةُ المستقبلية ويتمكن العقل الجمعي المسلم من أن يضع مقاربة جديدة لتدبير مرحلة التطبيع ومرحلة ما بعد التطبيع النهائي، فواقع العالم بعد آثار “حرب كورونا” التي يستغلها الغرب في عملية استكمال التطبيع، لن يكون كحاله قبل، ولعل من أهم متغيراتها انتهاء الممانعة وبداية عهد جديد لدول جديدة في ليبيا وسوريا واليمن والسعودية والخليج برمته تقودها إسرائيل اقتصاديا، وتتحكم في قراراتها السيادية سياسيا، من خلال مواثيق واتفاقيات جديدة، تستبطن روح صفقة القرن في بناء شرق أوسط كبير جديد.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.