نواصل في هذا المقال ما بدأناه سابقا من عرض الآيات الدالة على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان.
الآية الثالثة: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النور:62].
في غزوة الخندق ولما كان الصحابة يجدّون في حفر الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المنافقون يتخاذلون ويتكاسلون، ويتسلّلون إلى أهليهم بسبب وبدون سبب ودون إذن الرسول. أما أهل الإيمان فقد كانوا إذا عرضت للواحد منهم الحاجة الملحة استأذن الرسول، فإذا قضى حاجته رجع إلى عمله وحرصا على الازدياد من الخير، وطلبا للأجر فانزل الله فيهم هذه الآية.
وقد استفاد أهل العلم أن إذا كان الذهاب لمذهب مكاني يحتاج إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم، فأولى منه الذهاب لمذهب علمي… قال العلامة ابن القيم: “فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه؛ فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه.” ([1])
وقال القسطلاني: “ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبا فى حاجة له حتى يستأذنه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ). فإذا كان هذا مذهبا مقيدا لحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق فى تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ “([2])
قلت: فانظر رحمك الله إلى هذا الاستنباط من الإمام القسطلاني وكيف جعل الذهاب إلى مذهب في الدين دون استئذان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم جرما من الذهاب مذهبا مقيدا لحاجة عارضة… ولا شك أن هذا يدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتحكيم سنته.
وقال الصالحي: “فإذا كان هذا مذهبا مقيدا، أرضا فيه لحاجة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين، أصوله وفروعه دقيقة وجليلة هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذان فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل/ 43]”. ([3])
الآية الرابعة:
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36].
قال الكرماني: “والمعنى: ما كان لأحد من أهل الإيمان حين حكم الكتاب أو السنة بأمر أن يختار غيره، ولا يجوز له أن يفعل إلا ما حكم الله به في القرآن (5) أو حكم به رسوله في السنة.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} فخالف الكتاب. {وَرَسُولَهُ} فخالف السُّنة.
{فَقَدْ ضَلَّ} عن الصواب والرشاد. {ضَلَالًا مُبِينًا} غير خافٍ”([4]).
قال الشنقيطي:” فجعل أمر الله ورسوله مانعًا من الاختيار، موجبًا للامتثال، منبهًا على أن عدم الامتثال معصية في قوله بعده: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}” ([5]).
وقال أبو نعيم:” ثمَّ انى نظرت وفقك الله فَرَأَيْت أصُول الْحق الَّتِي توصل بِأَهْلِهَا الى الْحق ثَلَاثَة أَنْوَاع كتاب وَسنة وَالْجِمَاع الْأمة فَوجدت الْكتاب آمرا بالانتهاء الى قبُول مَا وَردت بِهِ السّنة وزاجرا عَمَّا زجرت عَنهُ السّنة قَالَ الله عز وَجل وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا ان يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا”([6]).
وقد فهم السلف من هذه الآية تحريم مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الأمور وخصوصها… روى الحاكم عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، قَالَ: كَانَ طَاوُسٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «اتْرُكُهَا» فَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُمَا أَنْ تَتَّخَذَ سُلَّمًا أَنْ يُوَصِّلَ ذَلِكَ إِلَى غُرُوب الشَّمْسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ” فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمَا أَدْرِي أَيُعَذَّبُ عَلَيْهِ أَمْ يُؤْجَرُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36] ([7]).
يتبع بحول الله
([1]) – إعلام الموقعين (2/94).
([2]) – المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/588).
([3]) – سبل الهدى والرشاد للصالحي (10/453).
([4]) – لباب التفاسير ص: 2188.
([6]) – الضعفاء لأبي نعيم ص: 44.
([7]) – المستدرك (373) وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ووافقه الذهبي.