.. العلماء الذين يرفضون الخضوع والامتثال تعمد الدولة غالبا إلى إقالتهم من وظائفهم، وتغييبهم بشكل كلي عن وسائل إعلامها فتقترف بذلك خطأ كبيرا في حق مصلحتها قبل حق مواطنيها وحق علمائها، لأن ذلك يمنع العالم المخلص النزيه مِن أن يلتحق بمؤسسات الدولة الدينية، الشيء الذي يفسح المجال أمام أشباه العلماء والوصوليين والمغرضين ومَن لهم دائما الاستعداد لبيع دينهم بدنياهم.
..السياسي يتحكم في الديني تحكما على مستوى الظاهر فقط، بينما يتطور الديني ويزدهر في الباطن لكن بانفصال تام عن الدولة وعن تأطير مؤسساتها الدينية، وهذا الانفصال بين الظاهر والباطن في الحقل الديني تكون له العواقب الوخيمة على مستوى اللحمة والتماسك، بل قد يتنامى هذا الانفصال إلى درجة العداء القابل في كل وقت للترجمة إلى أعمال عنف، مما يمكن اعتباره خطرا يهدد استقرار البلاد على الدوام.
الأمة التي لا تملك مرجعية تستمد منها معايير تستند إليها في وضع تشريعاتها وقوانينها ورسم مخططاتها ومشاريعها، والأمة التي لا تحمي شعبها من غزو المرجعيات المناقضة لهويتها غالبا ما تعيش في التيه والضلال، فيكون مصيرها الضعف والاضمحلال.
فالوهن والخور الذي يُهيمن على واقع البلدان الإسلامية إنما كان نتيجة لكونها رضيت بعد استقلالها أن تمزج بين مرجعيات متناقضة، فلم تنعقد لها وحدة، ولم ينجح لها اقتصاد، ولم تفلح لها سياسة، إذ تجاذبتها تلك المرجعيات المتناقضة المستوردة من بلدان المحتل، فأضعفتها حتى انهزمت أمامه نفسيا وفكريا، لتصبح في النهاية تابعة له سياسيا واقتصاديا.
فقوانين أغلبها علمانية تتناقض ومرجعيتها الإسلامية بدعوى التقنين وبناء المؤسسات، واقتصاد الكثير منها رأسماليا ليبراليا لا يعترف بحدود الدين وأوامره، غاياتها تبرر وسائلها، ومواطنوها يلعنون حكوماتها ويتهمون رجالها بالفساد والخيانة.
ورغم هذا كله، نجد هذه البلدان المسكينة ذات المرجعيات المختلفة المتناقضة تحاول أن تبقى مع ذلك محافظة على مرجعيتها الدينية وهويتها العقدية، فيُنتج قادتها وسياسيوها خطابا يعكس تشرذمها وتناقضها، لا يجد له صدى في قلوب رعاياها، لأنه لا ينسجم مع هويتهم مما يدفعهم إلى أن يبحثوا عن مرجعيتهم الأصلية وعن قادة جدد ولو خارج حدود وطنهم.
والمغرب هذا البلد الذي طالما كان حرا مستقلا حتى عن باقي العالم الإسلامي، قويا بدينه وهويته لم يشذ عن التشرذم والتيه الذي تعاني منهما باقي البلدان الإسلامية، حيث يعرف التناقض نفسه بين مرجعيته الإسلامية وقوانينه الوضعية، ففي الوقت الذي تركز فيه جل خطابات النخبة والساسة على احترام الهوية والدين، نجد المخططات والمشاريع والتشريعات تخالف كل مقوماتهما.
فمخالفة القوانين لمقومات الهوية والدين جعلت السياسي يتدخل في الدين، بينما علماء الدين ممنوعون من الكلام في كل موضوع ديني ذي صلة بالحياة العامة، مما يجعل الخطاب الديني داخل المؤسسات الرسمية للدولة يتناقض مع قناعات وممارسات المواطنين الدينية.
خطر التناقض بين الخطاب الديني الرسمي والممارسات الدينية للمواطنين
إن أهم نتائج تناقض القوانين والتشريعات مع رغبة المواطنين في أن يُنظم الدين حياتهم العامة قبل الخاصة، تكمن في إضعاف ولاء الأفراد للدولة بمختلف مؤسساتها وقوانينها، وللوطن كمجال لتمظهر عمل هذه المؤسسات والقوانين، وترتب عن هذا كله في النهاية ضعف التماسك بين مكونات الدولة بالمفهوم السياسي للكلمة كشعب وأرض وحكم.
ومن نتائج ذلك التناقض أنه يجعل العالم والخطيب والفقيه ينتج خطابا لا يتماهى مع الخطاب الرسمي للدولة أمام إلحاح أسئلة المواطنين واستفتاءاتهم، مما يدفع الدولة إلى أن تمارس بعض الضغوط على علمائها ووعاظها من أجل تغيير خطابهم، الأمر الذي يُفقد مصداقيتهم عند المواطنين في حالة الاستجابة للضغوط، ويعمِّق الهوة بين علماء الدولة والأفراد، ويسهل استقطاب باقي الفاعلين غير الرسميين لهم.
أما العلماء الذين يرفضون الخضوع والامتثال فإن الدولة غالبا ما تعمد إلى إقالتهم من وظائفهم وتغييبهم بشكل كلي عن وسائل إعلامها، فتقترف بذلك خطأ كبيرا في حق مصلحتها قبل حق مواطنيها وحق علمائها، لأن ذلك يمنع العالم المخلص النزيه مِن أن يلتحق بمؤسسات الدولة الدينية، الشيء الذي يفسح المجال أمام أشباه العلماء والوصوليين والمغرضين ومَن لهم دائما الاستعداد لبيع دينهم بدنياهم، فيصير السياسي يتحكم في الديني تحكما على مستوى الظاهر فقط، بينما يتطور الديني ويزدهر في الباطن، لكن بانفصال تام عن الدولة وعن تأطير مؤسساتها الدينية.
هذا الانفصال بين الظاهر والباطن في الحقل الديني تكون له العواقب الوخيمة على مستوى اللحمة والتماسك، بل قد يتنامى هذا الانفصال إلى درجة العداء القابل في كل وقت للترجمة إلى أعمال عنف، مما يمكن اعتباره خطرا يهدد استقرار البلاد على الدوام.
تغييب العلماء وإقصاؤهم لا يخدم مصالح الدولة نفسها
إن التناقض المذكور آنفا بين بعض التشريعات والمخططات مع مقومات الهوية والدين، وكذا الضغوط التي تمارسها الدولة على علمائها، جعلت السياسي والمثقف والصحافي بل حتى المغنيين والراقصين وسفهاء الأحلام، يتدخلون في الدين ويحللون ويحرمون كما يَحلوا لهم، مما أصبح مصدر استفزاز وقلق دائمين للمواطنين، وسببا من الأسباب التي تغذي التطرف في المغرب.
وأمام هذه الفوضى العارمة يتعجب المرء عندما يرى العلماء والفقهاء مع أنهم المنتج الرئيس للخطاب الديني المؤطر لسلوك المواطنين، ممنوعين من الكلام في كل موضوع ديني ذي صلة بالحياة العامة، كالربا والعري على الشواطئ والاختلاط وانتشار الخمر والقمار والدعارة والمذاهب المنحرفة ودعوات التطبيع مع الكيان الصهيوني…
إن الدولة عندما تمارس هذا الضغط على العلماء تحسب أن هذا الإجراء سيخفف من آثار التناقض المذكور وخطره، وأن عزلها لعلمائها وفقهائها عن الصراع الدائر في المغرب بين الديني والسياسي يُقرِّب الهوة بين المواطنين ومؤسساتها الدينية، بينما في الحقيقة تكون قد ارتكبت أخطر أخطائها، لأن الدولة عندما تمنع علماءها من الخوض في القضايا ذات الصلة بالنظام العام وتفرض على العلماء والوعاظ والفقهاء نمطا موحدا من الخطاب تكون بفعلها هذا تمارس إرهابا فكريا عليهم، يجعلهم دائما دون مستوى ما يتطلبه التأطير الديني من استقلالية وقوة في الإدلاء بالحجة والدليل اللازمين للإقناع، خصوصا في ظل ما يمارسه الانفتاح الإعلامي والثورة المعلوماتية من تحديات على مؤسسات العلماء، مما يزيد من تأزيم الوضع، ويعمّق الخلافات بين الدولة ورعاياها، ويجعل الخطاب الديني داخل المؤسسات الرسمية للدولة يتناقض مع قناعات وممارسات المواطنين الدينية.
فهل التزام الحياد مثلا من طرف علماء المؤسسات الدينية للدولة في حرب العلمانيين على القيم الإسلامية كما هو الشأن بالنسبة لفريضة الحجاب يخدم مشروع بناء الثقة بين العلماء “الرسميين” والمواطنين المغاربة أم يزهدهم في كل نشاط ديني تكون الدولة طرفا فيه؟
هذا مع العلم أن وجوب ارتداء الحجاب مسألة محسومة في المذهب المالكي، ومجمع عليها بين علماء الإسلام على مرِّ القرون.
والمفارقة العجيبة أن فرنسا أُمَّ العَلمانية اعتبرت الحجاب الإسلامي من الرموز الدينية، فلما تنامى انتشاره بين رعاياها وأصبح يهدد عقيدتها العَلمانية، جمعت حكماءها الأربعين ليفتوها بشأن عزمها على اتخاذ قرار بمنعه، وبالفعل أفتوها بالمنع فمنعته دون اعتبار لحقوق الإنسان أو حرية الأفراد أو حرية التدين، ما دام يهدد عقيدتها العلمانية حفاظا على تماسك مواطنيها وحماية لنظامها، بينما العَلمانيون في المغرب يَدْعون إلى العري والتبرج عبر القناة الثانية العمومية، وينكرون الحجاب على رؤوس الأشهاد وهو من صميم المذهب، فلا يتحرك عالم يُمثل مؤسسته العلمية لإصدار فتوى، تستنكر عبث العلمانيين وتُدافع عن الدين.
ألا يعتبر إنكار الحجاب من الكبائر إن لم يكن من الموبقات التي تستدعي تحرك وزارة الأوقاف ومندوبيها؟
أم أن المراسلات لا تحرَّك إلا لعزل إمام صلى بالقبض أو لم يقرأ الحزب الراتب؟
أفلا يُنمِّي هذا التقاعس والحياد وهذا الغياب الفظيع لعلماء المؤسسات الرسمية فكر التطرف؟
لقد أصبح من اللازم على الدولة أن لا تفرض على الناس إلا ما يتوافق مع الكتاب والسنة حتى لا تفقد مصداقيتها عند المواطنين، وأن ترفع الحَجْر عن علمائها ليتمكنوا من الدفاع عن حرمة الدين وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى ترجع لهم مكانتهم وهيبتهم في قلوب المغاربة، إذا كانت بالفعل تريد أن يستجيب المواطنون لمشروعها في إعادة هيكلة الحقل الديني، خصوصا أن كل الدراسات أثبتت أن المغاربة يجنحون إلى اللالتزام بالشريعة الإسلامية وأحكام الدين بوتيرة عالية ومستمرة.