عندما نذكر فلسطين وأهل غزة، والعراق ولبنان وأفغانستان، وغيرها من بلاد الإسلام، نتقطع حزنا ونحن نرى إخواننا يقتلون وبلادنا تستباح وأعراضنا تنتهك، فنحزن كثيرا لتلك الصواريخ والقنابل التي تأتينا من سماء الكافرين…
لكن المشهد الذي لا يراه كثير منا، بل لربما رأوه بعين أخرى، هو مشهد تلك الصواريخ الفكرية والقنابل الأخلاقية التي تضرب في سلوكنا، وتهدم قيمنا كي تبني على أنقاضها أسلوب حياة، ونمط عيش، وطريقة تفكير.
وهذه في الحقيقة هي التي تقتلنا كأمة، وتبيدنا كحضارة، أما مصارع الرجال تحت القنابل، وجثت الأطفال تحت الرماد، فهي الشهادة، وفي الأرحام خلف، وسنة الله لا تجد لها تبديلا، وقدره ماض، وحكمته بالغة، وهي كبوة نوشك أن ينتقذنا الله برحمته منها، أما تدمير الأخلاق، ومسخ الهوية، ونكس الفطر، فتلك الطامة الكبرى والحالقة التي تحلق الأمة من على وجه الأرض، وتجعلها مجرد كائنات تأكل الطعام وتمشي في الأسواق لا كناية عن إنسانيتها ولكن تحديدا لوظيفتها، وليس لذلك خلقها الله.
إن هذا الهجوم اللاأخلاقي الذي يتعرض له المسلمون كل يوم وهم بياتا نائمون، أو ضحى يلعبون، لخطر شديد، لأنه هو الذي يذهب بنا كأمة ويأتي بأناس آخرين، وهو الذي يمهد للهزيمة المادية، والتبعية الاقتصادية، ويجعلنا قبلة كل مستعمر، وهدف كل سلاح جديد.
إن المسلم عربيا كان أو غير عربي، ليس بشيء لولا قيمه ودينه وأخلاقياته، وما يحيط ببدنه من معان ومبادئ، تجعل منه شيئا مختلفا عن الكافرين، وبشرا سويا متميزا عن البهائم، ولولا هذا لكان “ماكينة” تصنع القاذورات، وتلوث الطبيعة، لا أقل ولا أكثر، ولكان الحمار الذي ينفع الناس خيرا منه، بل لكان للذباب مكان في الدورة البيولوجية أهم من مكانه فهو خفيف يأكل الجراثيم ويبيد الجثث، قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ” وقال تعالى: “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً”.
إننا نتحدث الآن حين لم يعد للحديث نفع إلا أن يشاء الله، فلقد اجتاحت هذه المبادئ أمتنا، وفاضت بين أراضينا كما تفيض المجاري في الحواري، وأصبح في كل مكان مناد ينادي حي على أسلوب حياة جديد، وقيم جديدة، وعالم جديد، فيجاوبه مناد آخر، ويردد أنغامه بصوت مختلف، ومن مكان مختلف ومن زاوية أخرى، ويصفق لهم آخرون، ويستعينون بأدلة الباطل-انظر مقال أدلة الباطل-، فيستدلون بالكثرة، وبالنجاح، وبالتطور، ويقولون كما قال فرعون: “أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي”، ويقولون للزوجة المحتشمة هلمي إلى خضم الحياة، واخلعي حشمتك، وأبدي مفاتنك، وابتسمي للحياة، وارم عنك لباس التخلف والرجعية.
ويقولون للزوج المحافظ على أسرته، الساهر على حمايتها وحفظها من كل سوء، كفاك تسلطا وجبروتا وقمعا للحريات، كيف لك أن تمنع الفتاة من دراستها الخارجية، وشهادتها العالية، ألست تثق في ابنتك، عليك أن تربيها على الثقة بالنفس، والتحكم في الإرادة، أما حرصك وتتبعك فهو قمع لا فائدة فيه، وكم من الفتيات انحرفن مع حرص آبائهن، وانظر إلى مجتمعنا البديل الذي لا ذئاب فيه، إنما هي علاقات ودية سامية، وبشر يشبهون الملائكة، لا ينظرون إلى المرأة أنها متاع، وإنما هي إنسانة، يعشقون فيها إنسانيتها وروحها، وهم يقفون في ندائهم هنا، ولا يبدون لك من خطوات إبليس إلا هذا الحد، فهم يعرفون ما سيفعله هو وجنوده بعد ذلك.
ويقولون ويقولون، لكنني أريد أن أتوقف عند قولهم هذا وأترك أقوالهم الأخرى لصفحات غير هذه، لكي أبين خطورة هذه المبادئ التي يزينونها للغافلات من الفتيات اللواتي تحملهن طيبوبتهن على تصديق كل ما يقال في الفضائيات، ولا يتصورن أن هذا الرجل المبتسم يتكلم بلسان شيطان، ويحاور بلسان شيطان، فتنطلي على بعضهن الحيلة، وتقف أمام المرآة وتقول: أنا إنسانة حرة، واثقة من نفسي، فإن لم يسعفها حظها بأب يرشدها ويحوطها، أو أخ أو زوج، فإنها تبدأ فقدان قيمتها كفتاة مسلمة منذ هذه اللحظة، وتفتح لها هذه الكلمة أبواب الانزلاق على مصراعيه، فتلج إلى الباطل بكلمة حق، وتفتح باب الرذيلة وهي تظنه باب الفضيلة…
والأطم من هذا أن تكون أمها وأبوها مصدر هذا الكلام، فيربونها على هذه المبادئ التي لا تأتي في العادة إلا طقما كاملا من القيم كل واحدة تدعو إلى أختها، فتنمو هذه الفتاة أوروبية في جسد مسلمة، ويصبح المجتمع مشاركا لزوجها في جزء كبير من جمالها وأنوثتها، فهذا يضحك معها حتى يطيب، والآخر يتغذى معها في اجتماع عمل، وذاك يصافحها بقبلاته البريئة، وهي الآن في اجتماع عمل مغلق مع رئيسها، وبعد قليل في حافلة يدك الناس فيها بعضهم بعضا، والكل ينظر إلى معالم جسدها مقبلة مدبرة، وهي مع كل هذا واثقة من نفسها ومن إرادتها، تعرف ما تريد، لكنها لا تعرف ما يراد بها، تظن أنها تساهم في نهضة البلاد، لكنها تسقطها إلى الحضيض، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا يعني أنك مستبد تدعو إلى الرجعية وترفض حرية المرأة؟!
على العكس تماما، لكنكم أيها الماكرون، لم تبينوا ماهية الحرية وحدودها، ولم تتقيدوا بتعاليم الشريعة وقوانينها، أردتموها نزوا كنزو الأباعر في الصحاري، وفتنة تتلف الشباب وتقتل كرامته، لهثاً خلف هذه، وجرياً وراء تلك، بحاراً من الشهوات تغرق كل فضيلة، وأعاصير من الهوى تذهب بكل ذي عقل، نحن مع حرية المرأة لكن ما هي الحرية؟
هل الحرية أن نحل ما حرم الله؟ ونكشف عن المرأة لباسها الذي ألبسها الله، وصبغتها التي فطرها الله عليها؟
هل الحرية أن أبعث بابنة في سن المراهقة إلى بلاد الخنى والفجور وأعرضها للفتنة؟ كفاكم تلاعبا بعقولنا، واستصغارا لأفهامنا، وتخويفا لسذَّاجِنا، فالباطل باطل وإن ردده الإعلام، ونشرته الصحف، وأيده أكابر المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ودعيني أكشف لك أختي باقي خطوات إبليس التي يخفيها هؤلاء، فيظهرون لك العسل المصفى، وما هو إلا أن تضعي فيه أناملك البريئة حتى يسري فيك سمهم الزعاف.
إن المسألة ليست في أننا نشكك فيك أو في ثقتك بنفسك، بل أنت إن شاء الله واثقة من نفسك، ثابتة على مبادئك، لكننا لا نثق في المجتمع التي أنت فيه، نحن نشكك في الذين من حولك، ممن يكيدون لك المكائد، ويتصيدون قلبك ومشاعرك، ويظهرون لك الود والخلق الجميل، يخاطبون فيك الأنوثة، ويلعبون لعبتهم التي يتقنونها، وأنت بمشاعرك النبيلة وحسن ظنك الجميل، تكونين الهدف، وقد لا تكونين الضحية، لكننا لا نريدك أن تكوني الهدف، ولا نريدك أن تمكني كل مختال متعجرف معجب بكلامه الجميل، من ممارسة هوايته الرذيلة، وما أكثرهم في زماننا.
فهل سبقك من أخواتك من دخلت هذا الشرك؟
هذا ما سنتناوله معك أخيتي في العدد القادم إن شاء الله.