مع بداية كل موسم دراسي جديد، تجدد الأسئلة حول جودة التعليم، وتتناسل النظريات والتحليلات على مختلف المنابر الإعلامية، لكن معظم تلك الكتابات التي قاربت القضية بقيت على الهامش ولم تنفذ إلى عمق الإشكالية التي تعانيها المنظومة التعليمية بحق موضوع جودة التعليم يستحق التأمل، كثير من الإعلاميين والمشرفين على تسيير المنظومة التربوية دبَّجوا كتبا ويوميات ومقالات، لكنهم فشلوا في وضع الأصبع على مكمن الداء، وبالتالي صعب واستحال عليهم وصف الدواء.
ومن ثم كان لزاما على كل من يحمل في قلبه هم هذه الأمة وهم أجيال المستقبل، أن يسهم في الحديث عن هذا الموضوع، ويزداد الأمر تأكيدا حينما نستشعر أن ثمة أيادي قذرة خفية تعمل جاهدة من أجل مسخ مناهجنا التعليمية، واستئصال ثوابتنا العقدية، أيادي عفنة ملوثة تعمل في الكواليس ساعية إلى ضرب الإسلام أمة وحضارة ومنهجا وهوية، أيادي مشبوهة لها ارتباطات وخيوط خارج تراب المغرب تستهدف تكميم أفواه العلماء والدعاة والخطباء، حتى يتسنى لها تكوين أجيال ممسوخة مستلبة لا تفقه ما يخطط لها في جنح الظلام مما يسهل عليها مأمورية قيادة القطيع بدون شغب أو اعتراض أو طرح استفهامات.
من هنا أمسى مطروحا علينا أن نشخص واقع وآفاق التعليم المغربي تشخيصا شموليا للكشف عن جذور الإشكال، وبعيدا عن لغة الأرقام الرسمية للمنجزات والمشاريع التي تم القيام بها لإصلاح النظام التعليمي وبعيدا عن تلك التنظيرات التي تعتبر أن فشل وعقم سياسة التعليم يرجع بالأساس إلى جمود طرق التدريس وتخلف المناهج التعليمية، والبعد عن مقر العمل، وصعوبة المسالك وندرة وسائل النقل وضغوط استعمال الزمن وضعف الكفايات المهنية للمدرسين، وانعدام برامج وطرق بيداغوجية وتفاقم نسب المتسربين والراسبين وسوء التوجيه، ونقص الموارد المالية، وغياب دور أباء وأولياء التلاميذ وقلة المنح الدراسية ومشاكل الاكتظاظ … الخ.
أنا لا أقلل من تلك الحقائق ولا أنفيها، وقد تكون فعلا من معوقات جودة التعليم، لكنني أقول بأنها ليست هي المشاكل الجوهرية الحقيقية التي يعاني منها النظام التربوي المغربي، وبالتالي مهما عقدنا المؤتمرات والمنتديات والدورات بغرض تحسين مردودية المدرس والمتمدرس، ومهما وضعنا الخطط والاستراتيجيات بهدف تجويد التعليم، فإنها ستذهب هباء ولن تجنى منها الثمار المرجوة، والأدهى والأمَرّ ستزداد سنة بعد سنة ميزانية الأموال التي تصرف لفائدة التعليم، بدون نتائج محسوسة على الفرد والمجتمع.
فما هي تلك المشاكل المسكوت عنها في النظام التعليمي المغربي؟ والتي من شأنها أن تساعد أصحاب القرار على وضع الحلول الناجعة لإزالتها وتحجيم خطرها.
التعليم ومروجي الأفكار المنحرفة
من الأخطار التي تنذر بعواقب وخيمة على المجتمع، تلك الأفكار العلمانية والإلحادية التي لا سند لها من الشرع والعقل والتي اقتحمت المؤسسات التعليمية بدون استئذان، فوجدت لنفسها مرتعا خصبا وهذا يدفعنا إلى مناقشة نوعية المدرسين الذي يشرفون على مهمة التدريس في مختلف مراحل التعليم، إن الواقع ليس على ما يرام ولا يرضي ربنا، فما زال هناك من يقول للتلاميذ “الدين أفيون الشعوب”، يشكك في وجود الله، يطعن في القرآن والسنة، يتهجم على الصحابة، يروج نظريات ماركسية وشيوعية وإباحية انقرضت وصارت في مزبلة التاريخ… ضاربا المقررات عرض الحائط، فيحدث التلاميذ ويقوم بغسل أدمغتهم بكل ما من شأنه زرع الكراهية حيال الدين والعلماء والتاريخ الإسلامي، أفلا يعتبر كل ذلك خيانة وإجراما للمتعلمين؟
وهناك من الأساتذة من يستغل فراغ وجدان الطالب من المعرفة الدينية الصحيحة، فيبغض لهم كل ما يمت لحضارة الإسلام وتاريخ المسلمين، وينقل لهم افتراءات المستشرقين وشبهات مختلف أعداء الدين، وأحكي عن تجربة شخصية كنت فيها أنا الضحية حتى لا يقال إنني أبالغ في وصف ما يجري بدهاليز المدرسة المغربية، وذلك أنني كنت مغرما بقراءة الكتب الثقافية، ونظرا لضعف حالتي المادية، حيث كان يتعذر علي اقتناء أمهات وجديد الكتب، وبتشجيع خفي من أحد الأساتذة الماركسيين تحت غطاء تبادل الكتب واستعارتها، كان يتحفني مع – باقي التلاميذ طبعا- بكتب إلحادية خطيرة قلبت أفكاري وشخصيتي وأخلاقي رأسا على عقب، وبعد ما كنت ذلك الشاب الوديع المهذب الذي يواظب على الصلوات ويحترم العلماء، أمسيت تحت تخدير تلك الكتب الهدامة إلى إنسان أخر ينكر وجود الله ويعتبره مجرد فكرة خيالية اختلقها رجال الدين بتواطؤ مع السلطة الحاكمة لاسترقاق الناس واستعبادهم.
أليست هذه جريمة في حق التلاميذ؟؟؟
ولولا أن من الله علي بالهداية، وانقدني من جحيم الشبكات العنكبوتية العلمانية والماركسية، لأصبح وضعي كحال أكثر شبابنا الجامعي الذي تعرض هو الأخر للقصف الفكري الإلحادي، فبات يعيش حياة العبث والتيه والحيرة والضياع، يتلبس بشتى أنواع الموبقات، يتعاطى المخدرات، يحتسي المسكرات، يضاجع العاهرات، يمارس العقوق تجاه الأباء والأمهات، يحارب بشراسة -قل نظيرها- كل من يلمس فيه تعاطفها مع الدين ويقوم بشعائر العبادة، ويعفي لحيته، فإنه ينظر إليه على أنه رجعي وأصولي وظلامي ومتزمت يعيش في أوهام القرون الوسطى.
التعليم وانتشار الإجرام بين المتمدرسين
إن من يعرف ما يروج داخل المؤسسات التعليمية لن يصاب بالدهشة والاستغراب إذا رأى آثار الفصام النكد بين الدين والحياة، والحصاد المر لإبعاد القرآن والسنة، وثمار تقليص إن لم نقل إقصاء مادة التربية الإسلامية، مما انعكس سلبا على مردودية التعليم ونتائج التلاميذ، إذ أصبح أغلب طلاب المدارس روادا للإجرام والفواحش والشغب والفوضى والغش والتسيب، صنف منهم شكل مافيات وعصابات لترويج شتى أنواع المخدرات والمسكرات بين التلاميذ، ناهيك عن الضرب والجرح وحمل السلاح الأبيض حتى وصل الحال إلى إقدام بعض التلاميذ على الإجهاز على حياة زملائهم والاعتداء على أساتذتهم داخل المؤسسات التعليمية، وصنف تخصص في المتاجرة بالرقيق الأبيض وعقد المواعيد الغرامية، ويكفي أن يقف – كل من يشكك في هذه الوقائع– أمام المدارس، وسوف يرى بأم عينيه منكرات وأفعال يستحي من فعلها ذوو المروءة والغيرة، والأدعى للعجب أن يصبح كل مجرم منحرف وقد يكون أحيانا لا علاقة له بالمؤسسة الدراسية، يقف أمام أبواب المدارس، وهو يستقل سيارة فاخرة أو دراجة نارية جديدة للإيقاع والتحرش بضحايا الحب والغرام، هذه الأوضاع دفعت الكثير من الآباء إلى مرافقة أبنائهم إلى الأقسام الدراسية وانتظار خروجهم في الزوال والمساء تحسبا لكل الاحتمالات السيئة.
فيا أصحاب القرار أفلا تعقلون؟
عن أي جودة للتعليم تتحدثون؟
وعن أي خطط بيداغوجية تتشدقون؟
إما أنكم في سبات نائمون؟
أو فقدتم الإحساس فلا تشعرون؟
حتى الوسط الجامعي معقل العلم والمعرفة تحول بفعل الفوضى والتسيب إلى ميدان للاختلاط وعرض الأزياء والأجساد العارية، وما يقع حوله من مسرحيات جنسية وصلت رائحتها للصحف الإخبارية أشهر من أن يذكر، حتى أصبحنا نسمع عن جرائم هتك للأعراض أبطالها بعض أساتذة الجامعة والله المستعان.
أما الشباب الذي تعرض لحالات الطرد والتكرار، فانقطع عن مواصلة مشواره الدراسي، بدون أن يحصل على أي مؤهل تربوي يساعده على الاندماج في المجتمع، فإنه هو الآخر بات يرتكب جرائم للقتل والاغتصاب واختطاف الفتيات وسرقة السيارات…. دون أن نتحدث عن تطويره للجرائم التي أضحى يستورد طرق تنفيذها من الغرب الملحد كاقتحام المصارف البنكية والمؤسسات العمومية، وتهديد سلامة المواطن سواء في الشارع أو مقر عمله مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول جودة التعليم بصيغته الراهنة، وبالتالي ضرورة التعجيل بإصلاحه إصلاحا جذريا قبل أن يستفحل الخطب، ويتعذر الرقع.
من هنا ومن خلال هذا المنبر الإعلامي الجاد، نذق ناقوس الخطر، ونقول لمن يهمهم الأمر أدركوا التعليم بإصلاحه قبل أن يتعرض هو الآخر للسكتة القلبية أو الدماغية.
حتى لا نجهز على التعليم بأنفسنا..
اعتبارا لكل ما عرضناه، يتوجب علينا تصحيح هذه الأوضاع حتى تسترجع المؤسسات التعليمية هيبتها ووظيفتها التربوية الأخلاقية التهذيبية التكوينية، فتصبح بذلك مصنعا لتخريج القادة وصناعة الرجال الذين يعتمد عليهم في تنمية الأمة والدفع بها قدما إلى الأمام، بدل ما هو عليه الحال الآن، حيث يتخرج من أحشاء المدرسة والجامعة شباب منحرف ذوي اهتمامات سطحية تافهة، شباب مجنون بقصص روميو وجوليت وقيس وليلى، شباب أغلبه غارق في الشهوات لا يتذكر المساجد إلا لحظة الامتحانات أو في المناسبات الموسمية، شباب لا شغل له إلا تتبع آخر صيحات الموضة، شباب متبلد الإحساس لا يستشعر ما يجري حوله من إبادة وحرب وهمجية وتقتيل لإخوانه المسلمين.
قلت: أن تصبح المؤسسات التعليمية محضنا لتربية الشباب بحق، وتبث في قلوبهم الرجولة والقيادة، هذا هو التحدي الحقيقي الذي أصبح يفرض نفسه الآن على كل من يحترق قلبه لأمته ووطنه وإخوانه، علينا تحصين نظامنا التعليمي ضد جميع الانحرافات والانزلاقات حتى يبقى قلعة مناهضة للميوعة والانحلال، فضاء للعلم والأخلاق، فضاء يتشبع فيه التلاميذ بقيم العفة والحشمة والفضيلة والحياء، علينا إيقاف مرتزقة التعليم عند حدهم، الذين حولوا المؤسسات التربوية إلى وكالات بنكية لا هم لها إلا سرقة أموال أباء التلاميذ تحت ذريعة ما يسمى بالدروس الخصوصية، علينا أن نراجع الخلل في طرق التقويم والامتحانات إذ ما زال الاهتمام ينصب على الحفظ أكثر مما ينصب على كفايات البحث والتحليل والتواصل والأخلاق، علينا جميعا تحصين المؤسسة التعليمية ضد الإلحاد والتطاول على المقدسات والثوابت، ضد التعصب والإقصاء لمن اختار قناعة إسلامية في فكره ومظهره، وهذا يقتضي من المدرس المربي القيام بوظيفته بكل صدق وأمانة، بعيدا عن سياسة التكاسل والتهاون وعدم القيام بالواجب، وأن يعمل على تطوير كفاءته وتجديد تكوين نفسه باستمرار، وأن يكون قدوة، نموذجا في أخلاقه وتعاملاته وملبسه… فالمفروض منه أن يجتهد لتأهيل التلميذ لمواجهة التحديات المستقبلية التي تنتظر أمتنا.
علينا جميعا مقاومة الانزلاقات الفكرية والسلوكية، الانزلاقات التي من شأنها إبعاد المنظومة التعليمية عن وظيفتها التربوية القيمة، وهذا يقتضي التصدي لكل من يريد أن يجعل من المؤسسة التعليمية وكرا للفكر العلماني الإباحي الدخيل على مجتمعنا، الغريب على أخلاقنا وتقاليدنا وأعرافنا.
ختاما نستخلص أن جودة حقيقية صادقة للتعليم لن تتحقق إلا بإحداث قطيعة جذرية مع حاضر التعليم العلماني العفن، ومحاولة ضخه بدماء وأفكار ومبادئ تمتح من القرآن والسنة وفهم سلف الأمة، وتعتز بهويتها الأصيلة وتفتخر بشخصيتها وتاريخ أجدادها.
ما لم يتحقق ذلك فإننا نقدم خدمات جليلة وبالمجان لأعداء الأمة لذبحها وسلخها وإجهاض أحلامها بالقيادة والريادة بين الأمم.
قد يدعي بعض ممن دأبهم الاصطياد في الماء العكر، والتهويل من أسطورة الخطر الإرهابي أن هذا التعليم الذي ننادي به الآن في هذه المقالة هو مصدر التطرف والإرهاب الذي اكتوى بناره العالم.
وطبعا الرد على مثل هذه الشبهات والاتهامات سيطول لكننا نأمل أن يتحقق ذلك في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.