ميثاق الحرية الذي ورد في إعلان حقوق الإنسان الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية في 26 غشت 1789م ينص على أن الحرية المطلقة لا قيد لها إلاّ القيد الذي يجعل الناس سواسيةً في التمتع بها.
فالعقيدة الغربية الجديدة تحظر على القانون أن يتدخَّل في مجال الحريات الفردية؛ وتعتبر وظيفته محصورة في وضع الحدود التي تحمي الحرية الفردية المطلقة وتكفل تمتع الجميع بها على قدم المساواة.
إلا أنه وكما قال جون ستيوارت مل: “مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. فبقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية فيها”؛ وهو الأمر ذاته الذي باتت تتخبط فيه العديد من الدول الغربية وعلى رأسها الجمهورية الفرنسية.
فبالأمس القريب منعت فرنسا بعض التلميذات من ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية؛ بحجة منع كل التلاميذ من ارتداء رموز بارزة تعبر عن ديانتهم؛ وها هي اليوم تعيد الكرة نفسها وتناقض شعاراتها ومبادئها وتمنع 365 امرأة معظمهن من أصل فرنسي من ارتداء النقاب؛ بدعوى “التأكيد على القيم الإنسانية التي يرتكز عليها التعايش المشترك؛ والحفاظ على قيم الجمهورية والديمقراطية التي تضمن استمرارية الميثاق الاجتماعي الفرنسي” كما صرحت وزيرة العدل الفرنسي.
فما الذي دفع فرنسا رائدة العلمانية في العالم ورافعة شعار احترام الحريات الفردية (حرية الاعتقاد واللباس..) إلى التنكر لمبادئها واعتبار ارتداء المرأة المسلمة لقطعة قماش تهديدا لعلمانيتها؟
إن أوروبا حائرة في كيفية التعاطي مع ملف اندماج المسلمين في ثقافتها وقيمها العلمانية؛ والنسوة اللائي اخترن ارتداء النقاب طوعا من غير إكراه ورفضن الانصهار في منظومة القيم والأخلاق الغربية وعاداتها الاجتماعية؛ أصبحن يشكلن خطرا عن قيم العلمانية ومبادئها؛ ويهددن باحتمال المطالبة بسن فرائض إسلامية أخرى في المستقبل؛ وتنشئة جيل أوروبي جديد متشبع بالعقيدة والقيم والأخلاق الإسلامية؛ إضافة إلى أن انتشار الحجاب ومظاهر التدين بين صفوف الأوروبيات يهدد المنظومة الاقتصادية وسوق اللباس ودور الموضة بالإفلاس؛ ويضمن تواجدا دائما للتدين داخل الشارع الأوروبي؛ ويدفع الكثير ممن لم يسبق لهم التعرف على الإسلام إلى التساؤل حول هذا اللباس ومرجعية أصحابه؛ وفي ظل الإباحية المنتشرة هناك والوضعية المزرية التي باتت تعاني منها المرأة الغربية؛ والقوانين العبثية المؤطرة للمرأة؛ فإن الإقبال على الإسلام لا شك سيتزايد.
وقد اعتبر أحد الباحثين أن الحملة الغربية على الإسلام وخاصة النقاب متعددة الأبعاد، فهي تعكس خوفا أوروبيا من التمدد الإسلامي على حساب الانكماش والارتداد عن النصرانية والعودة إلى اللادينية، وهو الأمر الذي يفتح المجال واسعا أمام انتشار الإسلام.
فأوروبا تعاني من فراغ ديني كبير، وتأثير الفاتيكان ضعيف جدا في حياة الأوروبيين عموما، والعلمنة بدورها تقضي على البقية الباقية من آثار النصرانية في أوروبا، ولذا يقومون بحملة مضادة لتخويف الغربيين من الإسلام باعتباره الخطر الذي يهدد حياتهم وحريتهم.
والغرب عامة يتدرج في حربه للمظاهر الإسلامية، وينتقل من معركة إلى أخرى بدون كلل، وهم اختاروا النقاب في حربهم، لأنهم يعلمون أن هناك من المسلمين من لا يلتزم به، ويستخدمون هذه المعركة لشق الصف الإسلامي في أوروبا بداية، وللادعاء أنهم لا يحاربون الإسلام، بل يحاربون التشدد والإرهاب، ويزعمون أن هذا اللباس يعد مظهرا لهذا التشدد والإرهاب بدليل أن بعض المسلمات لا يرتدينه.
أي أنهم يختارون رمزا إسلاميا، ويشنون عليه الحرب، ثم ينتقلون إلى مظهر أخر، وربما تتعدد المظاهر التي يحاربونها، ولكنها تختلف من بلد إلى أخر، فسويسرا ركزت على المساجد، وفرنسا وعدة دول أخرى ركزت على النقاب، وهكذا.