مظاهر الجاهليات القديمة في جاهلية العلمانية الحديثة 2 أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

جاهلية العلمانية في مدلول الربوبية 

بعدما استعرضنا في المقال السابق -بتوفيق الله- مظاهر الجاهلية في العلمانية في جانبيها الاقتصادي والأخلاقي. فسنستعرض الآن جاهليتها في جانبها التشريعي. وذلك من خلال ما حكاه لنا القرآن الكريم من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كقصة سيدنا إبراهيم مع قومه، قصته مع النمرود وذلك في قوله سبحانه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(1).
إن هذا الذي جادل إبراهيم عليه السلام لم يجادله كما يظن كثير من الناس في أصل الإنشاء والإيجاد والإحياء وزرع الأرواح وإحداث الأشياء من عدم، وإنما جادل إبراهيم عليه السلام في كونه المتصرف المريد بما أنه صاحب الملك والسلطان؛ يعفو عمن يشاء ويقتل من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء. لذا لم يناقشه إبراهيم عليه السلام تبعا في إيجاد الشمس وإنشائها وإنما جادله في قانون تسخيرها والتحكم في إتيانها ونظام حركاتها {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، فإن كنت أنت ربا بمعنى السيد المالك المتصرف والسلطان القادر على كل شيء لا راد لمشيئتك ولا اعتراض على حكمك فاعكس حركة الشمس هذه. فإن عجزت فإن ربي الله المتصرف في أمري وأمر كل الناس هو الرب المتفرد بالتحكم في حركة الكون.
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. دعوة إلى عبادة الرب الخالق الذي هو في حس إبراهيم عليه السلام الرب المالك المتصرف في كل شيء الكفيل المتفرد بالسلطان، لا راد لمشيئته ولا اعتراض على حكمه. لاشريك له في الخلق ولا شريك له في الحكم ولا ند له في الأمر {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(2). فمجادلة إبراهيم عليه السلام للنمرود كانت في ربوبية الحكم والسيادة والأمر والتدبير، لا في ربوبية الخلق والإيجاد والإنشاء فحسب. فقول النمرود { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } المراد منه أنا السيد الحاكم صاحب السلطة والسلطان المتصرف في شؤون حياتكم النافذ أمره فيكم. وهذا يفسر قول فرعون في دعواه الربوبية لنفسه بقوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(3) فهذه الربوبية المدعاة من فرعون هي عينها المدعاة من النمرود إنها ربوبية السيادة والحكم والتصرف والتشريع. فهو المحلل وهو المحرم، وما رآه حسنا فهو الحسن، وكل ما رآه قبيحا فهو القبيح، لا يسأل عما يفعل، يمنع كيف يشاء، ويعطي كيف يشاء، ولا يملك عليه أحد أي سلطان كما هو قوله في ما حكاه الله على لسانه {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(4). هذه العبارة تدل على أن فرعون في دعواه الربوبية لم يخاصم موسى عليه السلام في ربوبية الخلق والإيجاد. وإنما كانت خصومته لموسى لإدراكه تمام الإدراك أن مجرد الإقرار بربوبية رب موسى والاعتراف له بوصفه الموجد للكون، هو إقرار ضمني له بربوبيته في الحكم والأمر والتشريع. وهذا يتعدى به إلى إبطال ربوبيته في قومه التي تتجلى في حكم فرعون وشرعة فرعون وسياسة فرعون.
{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} دعوى قائمة على أساس أن لا أحد يشرع للقوم إلا فرعون بما أنه هو الملك السيد الذي له حق التصرف في ما يملك كما جاء في قوله في ما حكاه الله عنه:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(5). لا أحد غيره تكون له الأحقية وكامل الصلاحية في تحديد مصالح القوم وسن قوانينهم {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. إنها دعوى قائمة على ما تشتمل عليه لفظة الرب من معاني الملك والسيادة والتصرف.
فإذا تبينت لنا حقيقة العلاقة بين مدلول الربوبية وحق التشريع، أمكننا فهم مضمون دعوة الأنبياء لأقوامهم حول إثبات الربوبية لله سبحانه ونفيها عمن سواه. فَهْمُ حقيقة المعركة بين أهل التوحيد وغيرهم من الأمم والأقوام في كل الجاهليات وجاهلية العلمانية المعاصرة، إنها قضية إما الإقرار بربوبية الله على البشر بقبول شرعته والرضا بحكمه، وإما رفض شريعته والرضا بحكم البشر وربوبية البشر أيا كان مصدرها وأيا كانت صورتها. سواء كانت على صورة حاكم أو صورة حزب أو هيئة أو طبقة أو شعب أو أمة أو مجتمع أو الناس أجمعين. فكل من ادعى لنفسه حق التشريع للناس. فقد ادعى لنفسه معنى من معاني الربوبية التي هي من خصائص الله وحده. وكل من اتخذه الناس مشرعا لهم فقد اتخذوه ربا من دون الله. وفي هذا يقول سبحانه ناقما على أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ..}(6). روى الترمذي في تفسير هذه الآية عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: « بلى! إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم »(7).
هؤلاء كانوا يعترفون بالله موجدا للكون، لكنهم جعلوا حق التشريع في التحليل والتحريم والذي يصطلح عليه في زماننا بحق التقنين لكبرائهم وساداتهم من الأحبار والرهبان. وعلى هدم هذا الأساس دعا الإسلام أهل الكتاب إلى جمع الكلمة ونبذ الفرقة في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(8).
إنها الدعوة إلى الإقرار بربوبية الله المطلقة ربوبية خلقه الخلق المستلزمة ضمنيا الإقرار بربوبيته في السيادة والحكم والتشريع ورفض حكم وتشريع من سواه. إنه لا يستقيم في ذهن المسلم الجمع بين الاعتراف بربوبية الله في خلق الكون وعدم الاعتراف له في الحكم والأمر. لا يستقيم إطلاقا حيث هذه هي الجاهلية، كانت ولا زالت كما في علمانيتها الحديثة ترضى بالاعتراف بالله ربا خالقا، ولا ترضى بالاعتراف بالله ربا مشرعا وحاكما وسيدا. جاهلية علمانيتها تقوم على نفس أساس جاهلية النمرود وجاهلية شعب نوح وجاهلية شعب لوط وجاهلية شعب هود وجاهلية شعب صالح وجاهلية أهل مدين وجاهلية شعب فرعون. جاهلية حكام وجاهلية شعوب كانت إرادتهم في ما حكاه الله عنهم هي رفض الاهتداء بشريعة الله، وفصل التشريع عن ربوبيته سبحانه. وهذا هو ما تصطلح عليه العلمانية في جاهليتها المعاصرة بـ: “فصل الدين عن الدولة ” وهي تعني إرادة شعب دون اعتبار شرع أو دين، قيام دولة بلا إسلام، دولة بلا تشريع إسلامي بلا تشريع رباني. إنها جاهلية في موكب الجاهليات المتتابعة في معارضة إنشاء مجتمع على أساس أن الرب الخالق هو الرب السيد الحاكم المشرع.
إنها جاهلية مسبوقة جاءت قبلها جاهليات إذا نظر إليها المرء في إطارها الزمني ظنها كثيرة، لكن بالنظر إليها في إطارها الفكري وخاصيتها المشتركة التي هي رفض شريعة الله وعدم الاهتداء بهديه، فالعلمانية منهج واسع عريض اتسع لجميعها.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة الآية 258.
(2) سورة الأعراف الآية 54.
(3) سورة النازعات الآية 24.
(4) سورة غافر الآية 29.
(5) سورة الزخرف الآية 51.
(6) سورة التوبة الآية 31.
(7) حديث رقم 3095 صحيح وضعيف سنن الترمذي للألباني.
(8) سورة آل عمران الآية64.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *