قبل أن أنتقل إلى الحديث عن الأمر الثاني المتعلق بازدياد النفوذ الأجنبي في المغرب وظهور الأطماع الأوربية، كيف يمكن تقييم تلك الحركة الإصلاحية؟ هل أعطت ثمارها أم آلت إلى الفشل و الذبول؟
في الحقيقة لم تكن حركة الإصلاح هذه تشتمل على الشروط والعوامل الضرورية لنجاحها، الشيء الذي أدى بها إلى الإخفاق. ويمكن إيجاز عوامـل الفشل في ما يلي:
1ـ عدم نضج فكرتي التغيير والتقدم في عقول المـغاربة؛
2ـ عدم قــيام مشروع البعثــات على تخطيـط قوى ودقيـق؛
3ـ عرقلة القوى الأجنبية لهذه التجربة الإصلاحية.
فيما يتعلق بالعامل الأول، نجد أن المغاربة قد شرعوا، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون في المقدمة، في سد باب الاجتهاد وفتح باب الجمود بعد سقوط دولة الموحدين. حتى إذا طلع القرن التاسع عشر الميلادي كانت فكرتـا التغيير والتقدم قد غابتا نهائيا عن الأذهان. ولم يكن في استطاعة المسؤولين في المغرب -بعد أن أحدقت بهم الأخطار من كل جانب، وبعد اطلاعهم على قوة أوروبا- أن يلحقوا بالركب الحضاري الحديث في بضعة عقود بواسطة مشروع الإصلاح بالرغم مما قدموا من مجهودات.
ذلك أن نجاح الإصلاح العسكري والاقتصادي رهين بإصلاح العقول وتغيير النفوس. لكن لما كانت عقول المغاربة، خصوصا العلماء والمثقفين، طوال القرون التي أعقبت سقوط دولة الموحدين قد استثقلت الاجتهاد والإبداع، ومالت إلى الخمول والكسل، كان من المتوقع أن لا يجد نداء الإصلاح المفاجئ من طرف المسؤوليين وبعض الغيورين من العلماء آذانا صاغية واستجابة كافية.
وفيما يخص العامل الثاني وهو فشل مشروع البعثات، يقول المؤرخ الأستاذ محمد المنوني:
»وقد كان من بين الأسباب التي أدت بهذه النخبة إلى مصيرها المؤسف، أن مشروع البعثات لم يكن يخضع إلى تصميم ثابت، وهذا ما يشير إليه الناصري بمناسبة ذكر الطلبة الذين وجههم السلطـان الحسن الأول إلى أوربا، وهو يقول تعليقا على هذه البارقة: (..إلا أن ذلك لم يظهر له كبير فائدة، إذ كان ذلك يحتاج إلى مقدمات، وتمهيد أصول، ينبني الخوض في تلك العلوم والعمل بها عليها). يضاف لهذا: أن حاشية نفس السلطان كانت لا تنظر بعين الارتياح إلى حركة البعثات، وهذا ما يسجله أحد طلبتها وهو ابن الحاج الأودي، فقد نصح الحكومة المغربية بالاستعداد لمواجهة التدخل الأجنبي، ولكن الوزراء والكتاب رموه بالإلحاد. ومرة أخرى قالوا للسلطان الحسن الأول: إن أعضاء البعثات بعدما أقاموا بأوربا سنين، عادوا منها جهالا متنصرين«1.
والعامل الثالث يتعلق بعرقلة القوى الأوربية لمسيرة عملية الإصلاح. ويحدثنا التاريخ المغربي الحديث في هذا الصدد، أن الحسن الأول مثلا لما تيقن من أطماع الأجانب في المغرب ومحاولتهم السيطرة على خيراته، أراد أن يربط علاقات ودية مع الدولة العثمانية بهدف الاستفادة من نهضتها وقوتها آنذاك. لكن قناصل الدول الأجنبية بطنجة عارضوا هذه المحاولات وعملوا على عدم تحقيقها بما كانوا يملكون من نفوذ.
«…فقد أسرعت الدول الأوربية إلى إحداث عراقيل أخرى بل قيودا قيدت بها الدولة وحرمتها من إمكانية التحرك كما تشاء.
فها هي ذي بريطانيا تحرم السلطان من حق التشريع في ميدان الجمارك وحق إنصاف رعيته من الأجانب المقيمين في بلاده.
وها هي ذي إسبانيا تغير على تطوان وتحتلها، وتفرض على المغرب غرامة تركت الدولة مثقلة بديون لمدة ربع قرن.
وها هي الدول الأوربية أجمعها تلزم السلطان بأن يقبل في ترابه أن يتحول عدد متزايد من رعيته إلى عملاء للأجانب وأعداء لوطنهم.
هاهي ذي تحرمه أيضا من حق اتخاذ أي تدبير دون مصادقتها عليه، بل حتى حق نقل جيشه من نقطة إلى أخرى دون إذنها.
هل يتصور أن تدعه هذه الدول يقوم بأي إصلاح من شأنه أن يقوي الدولة المغربية ضد أطماعها؟»2.
وبالنسبة للأمر الثاني، أي تضخم نفـوذ الحكومات الأوربية في المغرب، لم يكن في استطاعة السلطة المركزية بالمغرب أن تتلافى وقوعه. ومما جعله أمرا حتميا؛ تزامن صعود القوة الإمبريالية والاستعمارية الأوربية مع تقهقر وضعف الحالة الاجتماعية والعسكرية في المغرب، خصوصا بعد هزيمتي إيسلي وتطوان.
ففي سنة 1846م عملت بريطانيا عل تجديد وتقديم الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها مع المغرب في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي مع التركيز على جعل حجم المبادلات التجارية أكثر ضخامة، والحصول على تسهيلات قانونية تخول للرعايا البريطانيين مزيدا من النفوذ والتأثير في ميدان التجارة.
وفي سنة 1863م أبرم المغرب مع فرنسا اتفاقية أفسحت المجال لهذه الأخيرة كي تمارس تجارتها على نطاق واسع، خصوصا فيما يتعلق باستيراد الأصواف التي كانت مصانع النسيج الفرنسية تحتاج إليها. ومن ناحية أخرى تعزز موقع الرعايا والتجار الإسبان بالمغرب بعد حرب تطوان وازداد نفوذهم وتأثيرهم. وأشار الناصري في الجزء الأخير من “الاستقصا” إلى أن فضيحة تطوان وغزوها من طرف الإسبان قضت على ما بقى من هيبة المغرب مما جعله أكثر تعرضا لأطماع النصارى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر.
1- محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، ص385-386.
2- جرمان عياش: دراسات في تاريخ المغرب، ص 343-344.