جُـنـَّـــة المــؤمــن طارق برغاني

ميز الله تعالى رمضان على سائر شهور السنة بالصيام، فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة:185، وخصه بهذه العبادة الروحية التي تروَّض فيها النفس بالإمساك عن الشهوات؛ وترق بها الروح وتصفو من شوائب الملذات.
وهو طاعة بدنية كذلك، تحبس البطن عن تناول الأطعمة والمشروبات، وتكبح الفرج عن مباشرة الزوجات، وهو طاعة سلوكية تهذب المرء على حسن المعاملات، وتلجم اللسان عن قول المحرمات..
وكل ما يترتب عن الصوم من تربية لهذه الجوانب الإنسانية في الأخلاق والعبادات والمعاملات، يتمظهر أثره في حياة الصائم، أما الأصل الذي تنبثق عنه كل هذه التربية، وهو الصيام، فإنه يظل مخفيا عن العيان، مستورا في الكتمان، لا يعلم به أحد إلا بعد أن يبوح به صاحبه.
يقول الله تعالى في سورة مريم: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} مريم:26، “.. والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام..” ابن كثير 5/226.
وقد نُسخ الحكم في الإسلام فأسقط صوم الكلام، فيكون المؤمن بصومه في عبادة مخصوصة بينه وبين ربه لا يطلع عليها أحد غيره تعالى، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: «كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لَه إلَّا الصَّومَ، فإنَّهُ لي وأَنا أجزي بِه، ولَخُلوفُ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللَّهِ من ريحِ المسكِ» البخاري:5927.
والصوم بدوره يكون جُنَّة للمؤمن وحرزا له من الخطايا والزلات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا كعبُ بنَ عُجرةَ، الصلاةُ قُربانٌ، والصيامُ جُنَّةٌ، والصدقةُ تُطفِئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ، يا كعبُ بنَ عُجرةَ! الناسُ غاديانِ، فبائعٌ نفسَه فموبقٌ رقبتَه، ومُبتاعٌ نفسَه فمُعتِقٌ رقبتَه” صحيح الترغيب:866.
ولفظ جُنة في اللغة يحمل معاني منها، الستر والتغطية والوقاية: “.. وَالْجُنَّةُ -بِالضَّمِّ-: مَا وَارَاكَ مِنَ السِّلَاحِ وَاسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْهُ، وَالْجُنَّةُ: السُّتْرَةُ، وَالْجَمْعُ: الْجُنَنُ.. وَالْجُنَّةُ: الدِّرْعُ، وَكُلُّ مَا وَقَاكَ جُنَّةٌ، وَالْجُنَّةُ: خِرْقَةٌ تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فَتُغَطِّي رَأْسَهَا مَا قَبَلَ مِنْهُ وَمَا دَبَرَ غَيْرَ وَسَطِهِ، وَتُغَطِّي الْوَجْهَ وَحَلْيَ الصَّدْرِ.. وَفِي الْحَدِيثِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ؛ أَيْ: يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ. وَفِي الْحَدِيث: الْإِمَامُ جُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقِي الْمَأْمُومَ الزَّلَلَ والسَّهْوَ..” اللسان:3/219.

الصيام جنة من النار
الصائم يتحمل جسمه الجوع والعطش، ويلزم نفسه بفضائل الأعمال خلال شهر الصيام، ويكبح جوارحه عن الخوض في ما لا منفعة فيه، فيباعد الله تعالى بينه وبين النار ويكون صنيعه ذاك حجابا له عنها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جنة من النار” الجامع الصغير: 3817(حسن).

الصيام حصن حصين
وتشمل هذه الخاصية للصوم جوانب عدة في الإنسان:
الجانب النفسي والروحي: بتهذيبهما وتزكيتهما وترقيتهما في أعلى الدرجات وترويضهما ضد الانقياد لسلطان الشهوات والإذعان لنداء الملذات.
الجانب البدني: الصوم وقاية من الأمراض والأدواء، وفيه الصحة الجسمانية وتجديد النشاط والحيوية.
الجانب الأخلاقي: الصوم صيانة للسان من قبيح الكلام وللعين من إمعان النظر إلى المحرمات، ولإصغاء السمع لمنكر الأصوات، ولليد والرجل من البطش والسعي في الخطيئات..، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصيامُ جُنَّةٌ، وهو حِصْنٌ مِنْ حصونِ المؤمِنِ، وكُلُّ عملٍ لصاحِبِهِ إلَّا الصيام، يقولُ الله: الصيامُ لِي، وأنا أجزي بِهِ” صحيح الجامع: 388 (حسن).

الصيام مدرسة تربوية
يعلمنا الصيام الكثير من الفضائل، ويرشدنا إلى العديد من السلوكات التي نحن أحوج إلى تطبيقها وتمثلها في حياتنا اليومية، ليس فقط في رمضان وإنما لتصير جزء من تصرفاتنا اليومية طيلة السنة، لأن الصوم طاعة تُرقق الروح وتُلين القلب وتُنمي قيم الحِلم والمودة والتراحم والتسامح والصبر على الأذى ورد السيئة بالحسنة.
وهذه أخلاق عالية لو التزم بها المسلمون لصار حالهم أرقى مكانة وأعلى شأنا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصيامُ جنةٌ منَ النارِ، فمنْ أصبحَ صائمًا فلا يجهلْ يومئذٍ، وإنْ امرؤٌ جَهِلَ عليهِ فلا يشتُمْهُ، ولا يسبَّهُ، وليقلْ إني صائمٌ، والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لَخَلُوفُ فمُ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ منْ ريحِ المسكِ” الجامع الصغير: 5199 (صحيح).

الصيام درع ووقاية
لأنه يحمي العبد من الآفات في الدنيا والآخرة، ويصونه من المصائب ويدفع عنه البلايا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصِّيامُ جُنَّةٌ مِنَ النارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ القِتَالِ، وصِيامٌ حَسَنٌ ثلاثَةُ أيامٍ من كلِّ شهرٍ” صحيح الترغيب:982، فهو مثل الدرع الذي يلبسه المقاتل أثناء الحرب ليقيه ضربات العدو، وهذا يتفق ومعناه اللغوي: “وَالْجُنَّةُ -بِالضَّمِّ-: مَا وَارَاكَ مِنَ السِّلَاحِ وَاسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْهُ، وَالْجُنَّةُ: السُّتْرَةُ، وَالْجَمْعُ: الْجُنَنُ.. وَالْجُنَّةُ: الدِّرْعُ..” اللسان:3/219.

جزاء مخصوص
اختص الله تعالى بمجازاة الصائمين، وهذا المعنى يتوافق مع خصيصة الصوم عن باقي العبادات بالإخفاء والستر وإن كانت الصدقة تختص بهذه الصفة كذلك، إلا أن الصوم أكثر لزوما لها مما يجعله من الرياء ومن إشراك الغير فيه أبعد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الصيامُ لا رياءَ فيه، قال الله عزَّ وجلَّ: هو لي وأنا أَجزي بهِ” فتح الباري لابن حجر: 4/129، (فيه ضعف).
فلم نر أحدا يجاهر بالقول أنه صائم أمام الناس بدون داع إلى ذلك، اللهم في حالة سباب أحد له كما ورد في الحديث السابق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: “الصيامُ جُنَّةٌ يَستجِنُّ بِها العبدُ من النارِ، وهو لِي وأنا أجْزِي بهِ” صحيح الجامع:4308 (حسن).
أما الصدقة فقد يُحتمل فيها أحيانا قصد شيء من الرياء أمام الخلق، بنص القرآن الكريم في مواضع عدة، منها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} البقرة:264.
اللهم حصنَّا بالصيام واجعله لنا جُنة في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *