الكتاب.. ذلك المهجور سفيان الحتاش

يعتبر الكِتاب النواة الأصيلة في ثقافة الإنسان، وقناة أساسية في تكوين رصيد معرفي لا بأس به، بحيث يمكّنه من الاطلاع على أحوال الأمم والشعوب قبله والاستفادة من تجاربهم في الحياة بجل مستوياتها، كما يمكنه من مواكبة النظريات العلمية الحديثة، هذا بالإضافة إلى تقاسمه أفكار معاصريه من الكُـتَّاب، وكل هذا مما تقاس به حضارة الأمم العلمية والثقافية.
وأمة لا تقرأ تصاب بشلل ثقافي وحضاري يؤول الأمر معه في الأخير إلى استئصال الجذور العلمية من أصولها، وأي شعب فقد العلم والحضارة، فهذا يعني فقده لذاته وكينونته.
ومنذ مدة غير يسيرة هجر المغاربة(1) -خصوصا- الكتاب وقراءته، وصار الكتاب عندهم في خبر كان، وفي هذه الورقة محاولة لكشف أهم أسباب هجران الكتاب بصورة مقتضبة، ثم التثنية بحلول ونصائح قد تفيد القارئ المغربي خصوصا، والعربي على وجه العموم.
وقبل الحديث عن هجر الكتاب، وأسبابه يستحسن التعريج بالحديث على أهمية الكتاب، واعتناء المغاربة به وما وصلوا إليه من الاهتمام به.
لا يخفى كم للكتاب من فوائد وأهمية، ولو عددنا فوائده لأبت أن تحصى من كثرتها، ولكن يكفينا في هذا السياق الاستئناس بنص الجاحظ المشهور في مزية الكتاب بأن ننقل منه بعض الشوارد.
يقول الجاحظ في شأن الكتاب: “نعم الجليس والعدة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة… والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا… إن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه… والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك… والكتاب هو الذي إذا نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحن طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك، وفخم ألفاظك ومنعك تعظيم العوام، وعرفت به في شهر مالا تعرفه من أفواه الرجال في الدهر”(2).
هذا بعض ما جاء في وصف الكتاب ومزاياه على لسان الجاحظ، وهو من أمتع ما قرأت في وصف الكتاب؛ ذلك أنه جمع بين المزايا الخُلقية والتربوية، وبين المزايا المعرفية والعلمية.
ولما عرف أسلافنا هذه المزايا وهذه الفوائد سارعوا وتنافسوا في الاهتمام به على مر العصور، والمتتبع لتاريخ المغرب منذ العهد الأول، أي منذ الدولة الإدريسية يجد برهان ذلك واضحا وجليا، فقد نشأت المكتبة المغربية أواخر العهد الإدريسي الأول زمن يحى الرابع الذي كان مشتهرا بعلمه وحبه للكتب حبا لا يقدر.
وأول ظهور للمكتبة العامة في المغرب كان في أواخر العصر الموحدي، أنشأها أبو الحسن الشاري حيث أوقف بسبتة خزانة مدرسته الشهيرة، وهي أول خزانة وقفت بالمغرب على أهل العلم كما يقول ذلك محمد بن القاسم السبتي في كتابه “اختصار الأخبار”.
يقول العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني معلقا على هذا الكلام: “وإنا مع احتفاظنا بهذا النص نستبعد أن يتأخر تأسيس المكاتب العامة بالمغرب إلى هذا العهد الأخير من الدولة الموحدية من غير أن يكون على الأقل في أولها، ومن غير أن يكون لعبد المومن وأبنائه أثر في هذا الميدان، لما علم من اهتبالهم بهذا الشأن، واشتهر من ابتنائهم بيت الطلبة، وتأسيسهم الكثير من المدارس في المغرب، وغير المغرب، وكل هذه المؤسسات لا تستغني عن كتب ومكاتب تكون بجانبها مباحة للعموم.
فالظاهر أن ابتداء تأسيس المكاتب العامة بالمغرب كان قبل ذلك العهد، في العصر المرابطي، أو أوائل العصر الموحدي على الأقل”(3).
وجمع الخليفة يوسف بن علي من كتب الفلسفة ما لم يجتمع لغيره، وفي العهد الوطاسي سد بعض مشايخ الزوايا فراغا كبيرا في المكتبة المغربية بسبب ما كانوا يوقفونه من الكتب، وقد بلغت الخزائن العلمية بسبتة وحدها ما يربو على 45 خزانة في بعض العصور، وفي خزانة الجامع العتيق بسبتة كان من الكتب ما لا يحصى بحيث لم يشذ عنها فن، ولا نوع من المعارف أصلا، مع تعدد مصنفات ذلك الفن وكثرة دواوينه(4).
وإذا كانت حال الأسلاف ما رأينا من عناية شديدة بالكتاب، والمسارعة إلى بذل الغالي والنفيس في اقتنائه والاستفادة منه وصونه فإن هذا قد انقلب رأسا على عقب، وصار الكتاب غريبا في وطنه ومهجورا أيما هجران، فالمتأمل لأحوال المجتمع يرى عزوفا أليما عن الكتاب، والقراءة الجادة المثمرة، وحتى إذا وجدت قراءة، فإنها قراءة لكتب هشة المعنى والمضامين لا تؤسس علما، ولا تبني ثقافة جادة يحتاجها المجتمع للخروج من أزمته الحضارية.
ومما يدل على هذه القطيعة والهجران للكتاب هو دراسة ميدانية أخيرة قام بها مكتب الدراسات الديموغرافية والاقتصادية والقانونية والإحصائية (ايدسا) بإيعاز من وزارة الثقافة المغربية وشملت 1365 قارئا محتملا في 13 مدينة مغربية ووجدت الدراسة أن القراءة بالمغرب قد تراجعت بنسبة 2%، بدليل أن واحداً من عشرة قراء محتملين لم يقرأ أي كتاب خلال العام الماضي فيما لم يقرأ 41% من القراء أي كتاب منذ ستة أشهر أو أكثر، و26.5% لم يتمكنوا من قراءة سوى كتاب واحد خلال سنة بكاملها، و19.3% قرؤوا كتابا خلال سنتين، و3.6% خلال خمس سنوات، و9.6% من المستجوبين لم يقرؤوا إلا كتابا واحدا خلال خمس سنوات. وأن حوالي ثلثي القراء يقرؤون قراءة متوسطة و23% يواظبون على القراءة و11% لا يقرؤون إلا نادرا(5).
علما أن هذه الدراسة كانت في سنة 2002، فكيف هو الأمر اليوم، وإن تعجب فعجب من أن المغرب يصنف في الرتبة 162 من لائحة القراءة حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ولا شك أن أسبابا ما تقف وراء هذا التراجع الساحق للقراءة في المغرب.
وتعددت وجهات النظر في البحث عن مكمن الداء، والأسباب الصارفة للقارئ المغربي عن الكتاب، كل حسب تصوراته ورؤاه، وخلصت إلى أسباب عدة:
كان أهم ما تصدر هرم هذه الأسباب هو تفشي الأمية في المجتمع المغربي بنسبة 50% وهذا رقم خطير يشكل هوة ساحقة بين الكتاب والمواطن المغربي، فإذا كان 50% من الذين يستطيعون القراءة لا الذين يقرؤون، فقد يصل عدد الذين يقرؤون إلى نسبة 30% أو 35% بل لو عددنا الأسباب الأخرى لتقلص العدد إلى نصفه وهذه كارثة عظمى تنخر الجسم الثقافي في المغرب.
ويأتي غلاء الكتاب في الدرجة الثانية من هرم هذه الأسباب، فبالنظر إلى الدخل الفردي لدى المواطن المغربي مع توزيعه على متطلبات الحياة اليومية، قد لا يشبع رغبته ونهمه في شراء ما استحسنته نفسه من الكتب؛ وذلك للارتفاع الصارخ في ثمن الكتاب، ويدخل في هذا جشع كثير من الناشرين وبعض المؤلفين مما يؤدي إلى غلاء غير معقول في سعر الكتاب.
ولا ننسى في هذا الصدد ما يقوم به بعض الأساتذة في بعض الجامعات المغربية من فرض شراء كتبهم التي يفوق ثمنها قدرة الطالب، وإلا يفعل يفاجأ هذا الطالب المسكين بنقطة لا تفرحه يوم يفرح زملاؤه، وهذا مما يكرس بغض الكتاب بحيث يفقد الكتاب تلك الهالة والدور المنوط به، ويصير مجرد أداة تنقل، ينتقل بها الطالب من سنة إلى أخرى، وقد لا يفتحه إلا مرة أو مرتان.
ومن الأسباب التي تشتت ذهن القارئ وتصرفه عن الكتاب: الانترنت، وما يصاحبها من مواقع اجتماعية هذه أهم الأسباب، فباقي الأسباب في نظري لا تخرج عن هذه الثلاثة: الأمية، ضعف القدرة الشرائية، الثورة المعلوماتية.
وإذا كانت الأسباب السالفة هي الداعية إلى هجر الكتاب، فإن أول نصيحة يمكن تقديمها للحد من الظاهرة، واستئصال هذا الشر من أصوله، هي دعوة الوزارة الوصية على إنشاء مكتبات عامة تغطي كافة التخصصات، مع تهيئة الظروف المناسبة للقراءة وخلق جو للمطالعة فيها، بحيث يتم تسهيل التسجيل في هذه المؤسسات، عند ذلك نكون قد أزحنا حاجزا وعائقا كبيرا يقف أمام القراء المغاربة، وهو ضعف القدرة الشرائية.
ثم إذا فعلت هذه النقطة وكانت الكتب ميسرة وفي متناول الأيدي، فإني أنصح القارئ الكريم بتنظيم الوقت، واختيار أفضل الأوقات التي يمكن فيها الاستفادة من الكتاب، وهذه نقطة من الأهمية بمكان فلو استطاع القارئ تنظيم وقته، وتخصيص وقت للقراءة فإنه سيحد من الملل الذي يطاله من الكتاب.
كذلك مما ينصح به القارئ هو عدم القراءة لقتل الوقت فقط، أو أن يقرأ فوق ما يقرؤه عادة من الصفحات بل تحديد عدد معين من الصفحات حتى لا يحصل له ملل، فالمطلوب إنما هو القراءة من أجل اكتساب ثقافة واعية، ورصيد معرفي رصين، حتى يكون للقراءة طعمها الخاص.
وفي الظن لو هيأنا هذه الأمور للقارئ فإنه سيكون إقبال عظيم على الكتاب لا مثيل له، وبذلك نبني مجتمعا واعيا ذا ثقافة تكتسي طابعا حضاريا مرموقا.
ــــــــــــــــــــــــــ

1- العزوف عن القراءة بالمغرب لا يشكل استثناء في هذا المجال قياسا على دول عربية أخرى، لكن ارتفاع نسبة العزوف عن القراءة لدى المغاربة تثير قلق الخبراء والقائمين على العمل الثقافي.
2- الحيوان للجاحظ عمرو بن بحر (ت:255) 1/38-50-52.
3- دور الكتب في ماضي المغرب، محمد المنوني، ص: 50-51.
4- هذه المعلومات التاريخية مستقاة من كتاب: دور الكتب في ماضي المغرب، لمحمد المنوني السالف الذكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *