جرت العادة في شهر رمضان من كل سنة أن تفتح المنابر الإعلامية النقاش حول العديد من القضايا والمواضيع ذات الصلة بالمجال الديني والمؤسسات الناشطة في هذا المجال؛ وفي هذا الإطار أعدت قناة (ميدي 1 تيفي) برامج وحوارات تندرج في هذا الإطار، وخصصت حلقة برنامج “مواطن اليوم”؛ الذي بثته يوم الخميس 10 رمضان الموافق لـ11 غشت؛ لموضوع (دور القرآن بالمغرب بين الحال والمآل).
واستضاف معدو البرنامج كل من حماد القباج المنسق العام للتنسيقية المغربية لجمعيات دور القرآن، ومولاي البشير أعمون عضو المجلس العلمي بتمارة، ومحمد بولوز الأستاذ الباحث في العلوم الشرعية، وأحمد عصيد الذي حضر هذه المرة بصفته ممثلا لجمعية بيت الحكمة.
ولا يخفى أن إثارة موضوع دور القرآن الكريم وإبراز أنشطتها الاجتماعية والثقافية بحضور كل من حماد القباج ومحمد بولوز والعلماني المتطرف أحمد عصيد من شأنه أن يشعل النقاش ويلهب حماسه؛ وهو ما حدث فعلا؛ حيث عمد عصيد إلى اجترار كلام العلمانيين المعروف؛ والمنحصر في ادعاء التمويل الخارجي لدور القرآن من “دول البترودولار” كما يسمونها؛ واستيراد “الفكر الوهابي” الدخيل المخالف لما عرفه المغاربة طوال عقود وغير ذلك؛ وقد تصدى الأستاذان القباج و بولوز مشكورين للرد على بعض تلك المزاعم وتفنيدها.
إلا أن ما أثار انتباهي من خلال متابعتي للبرنامج أمران اثنان:
الأول: ادعاء عصيد أنه لا يعلم جهة دعت إلى إغلاق دور القرآن الكريم!!!
والثاني: هو مطالبة سعيد الكحل -من خلال مداخلة له في “روبرتاج” أعدته القناة- الدولة بوضع برامج ومناهج دور القرآن تحت المراقبة؛ وعدم ترك المجال لهذه المؤسسات حرا تنشر ما تريد.
وقفة مع عصيد
فعقب السؤال الذي وجهه منشط البرنامج إلى أحمد عصيد حول الحملة التي استهدفت دور القرآن وبلغت إلى درجة تشبيهها بمدارس طالبان التي أنتجت متطرفين وإرهابيين، أليس في هذا نوع من المبالغة؟
أجاب عصيد أن: “هناك مبالغة في القول أن هناك أصوات تصاعدت تطالب بإغلاق دور القرآن؛ هذا لم يحدث؛ -حسب علمي- جميع الناس الذين استنكروا من التيارات المدنية والديمقراطية استنكروا رأي محمد المغراوي، لكنهم لم يدعوا إلى التضييق عليه أو قمعه ولم يدعوا إلى إغلاق دور القرآن” اهـ كلامه.
وهذا الكلام من عصيد لا يخرج عن أمرين اثنين: إما أنه غير متابع فعلا لأحداث ومستجدات هذا الملف الحساس؛ وهذا أمر قد يفقده المصداقية؛ وإما أنه يكذب ويصر على إخفاء الوجه البشع لصور الاضطهاد والقمع والاستأصال التي كان يمارسها الفصيل العلماني بكل ألوانه وتشكيلاته على هذه المؤسسات.
فقد شنت العديد من المنابر الإعلامية العلمانية حربا ضروسا على دور القرآن؛ ولم تأل جهدا في وصفها بمدارس الانغلاق والتطرف والإرهاب والتشدد والتفجير والتكفير التي تشكل خطرا عظيما على المجتمع والدولة والنظام!!
وسودت جريدة الأحداث المغربية في ذلك العديد من المقالات ادعت فيها أن الدولة: “تساهلت وتغافلت كل أجهزتها عن استفحال أنشطة التضليل التي تقوم بها دور الانغلاق التي تسمى بهتانا “دور القرآن” والتي تتلقى تمويلا خارجيا لا يخضع للمراقبة..” (الكحل سعيد؛ الأحداث ع: 3530). وكذلك بالنسبة لجريدة الاتحاد الاشتراكي التي نشرت في عددها 9069 مقالا بعنوان:”إغلاق دور القرآن، بين حقوق الإنسان ومشاغل طالبان”.
وعمل “الكحل سعيد” -الذي عهدنا منه دوما الظهور في مثل هاته الأحداث- على استغلال الظرفية؛ حيث استهدف الدكتور المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة مباشرة في شخصه ودينه ومنهجه؛ واتهمه بالتكفير! في قمة الاحتقان الذي كان يشهده البلد إبان حملة الحرب على الإرهاب؛ وادعى أن المغراوي يشكل بمدارسه ودوره وأتباعه وعقائده مخاطر على الدولة والمجتمع والنظام في المغرب!!
وقد ساهمت هذه الحملة بل الحرب العلمانية على دور القرآن في التأثير بصورة بارزة على مواقف بعض المسؤولين، واحتدم النقاش حول الموضوع إلى أن وصل إلى قبة البرلمان؛ وتقدمت مجموعة من الفرق النيابة بأسئلة شفوية حول قرار الإغلاق، وحرص فريق التجمع والمعاصرة على تأييد قرار إغلاق مصالح وزارة الداخلية لدور القرآن على اعتبار أن وضع دور القرآن وضع شاذ غير مقبول لا أخلاقيا ولا قانونيا. (انظر الأحداث المغربية: 3553/الجمعة 31 أكتوبر 2008).
فهل كانت هناك فعلا مبالغة في القول أن “هناك أصوات تصاعدت تطالب بإغلاق دور القرآن؛ وأن جميع الناس الذين استنكروا من التيارات المدنية والديمقراطية استنكروا رأي محمد المغراوي، ولم يدعوا إلى التضييق عليه أو قمعه، ولم يدعوا إلى إغلاق دور القرآن” كما ادعى عصيد أم أن الأمر مجرد مناورة مكشوفة ومحاولة بائسة لتغطية الشمس بعين الغربال!!
وقفة مع الكحل
اعتبر “الكحل سعيد” من خلال مداخلته في الروبرتاج الذي أعدته القناة: “أن على الدولة أن تضع برامج ومناهج هذه المؤسسات -يعني دور القرآن- تحت المراقبة، وينبغي أيضا تحكيم الهيئات العلمية فيما تلقنه هذه المدارس من برامج ومن مناهج ومن محتوى لطلابها وللمترددين عليها، يعني لا تترك لها المجال حرا تنشر ما تريد وخاصة أن هذه الدور -دور القرآن- هي متشبعة بالسلفية الوهابية، وعقائد السلفية الوهابية هي مختلفة جذريا عن عقائد وأعراف المجتمع المغربي والمذهب المالكي والشخصية المغربية المعروفة بتسامحها بانفتاحها بتعايشها؛ وأيضا المعروفة بتشبعها بقيم وثقافة حقوق الإنسان” .اهـ
“الكحل” شخص معروف؛ أشهر من أن يعرَّف به وبمواقفه العدائية والاستأصالية؛ وبتناقضاته وشطحاته المخزية، لذا لم يكن تحامله على دور القرآن أمرا مستغربا.
فهل يعقل أن شخصا مثل “الكحل” باحث (عابث) في الجماعات الإسلامية يجهل أن وزارة الداخلية من خلال مصالحها المختصة تتابع كل أنشطة جمعيات دور القرآن الكريم وتحركات دعاتها ومؤطريها؟!
لا أبدا؛ فلا أحد ينشط في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي في هذا البلد الكريم يجهل ذلك؛ لكن الحقد الذي ملأ قلبه اتجاه آلاف الشبان والشابات الذين رجعوا إلى دينهم وتمسكوا بسنة نبيهم أكل قلبه وفتت كبده.
ثم إن أخذنا بمنظور المراقبة الذي دعى إليه الكحل؛ فهل على الدولة أن تراقب برامج ومناهج دور القرآن وحدها؛ أم أن الأمر يجب أن ينسحب على كل الجمعيات الناشطة في المجتمع المدني؛ بما فيها بيت الحكمة والجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان والجمعيات النسائية وغيرها؟!
أزعم أن الأمر لو وصل إلى هذا الحد؛ أي مساءلة الجمعيات العلمانية النسايئة والحقوقية وغيرها عن مصدر تمويلها، وتحكيم الهيئات العلمية المختصة فيما تمرره من برامج ومناهج وقيم ومعتقدات منافية ومخالفة تماما لعقد الأشعري وفقه مالك وسلوك الجنيد وأعراف وتقاليد المجتمع المغربي، أزعم أن الأمر لو شمل هذه الأطراف سيتغير خطاب الكحل ومن على شاكلته مائة وثمانين درجة؛ وستعلوا أصواتهم ويكثر صخبهم؛ وسيقيمون الدنيا ولن يقعدوها؛ وسيستدعون المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان للضغط على السلطات المغربية كي ترفع هذا الظلم!!! وتلغي قرار المتابعة والمساءلة الغاشم المنافي لحق الإنسان في التعبير والتجمع!!!
ثم كيف لشخص مثل “الكحل” يطمح إلى العيش في ظل دولة علمانية يفتقدها في الوطن العربي برمته؛ بدليل أن قوانين هذه الدول -كما صرح الحكل بذلك- تعتبر الإفطار في رمضان جنحة/جريمة، كما تمنع فتح حانة بالقرب من المسجد، وأن الحكومات العربية ما هي إلا أجنحة تنفيذية لبرامج الجماعات الإسلامية وأن الطرفان معا يستفيدان من كبح التطور وعرقلة التحديث. (انظر: قدر العلمانية في العالم العربي؛ منشورات الأحداث المغربية؛ ص:85).
كيف لشخص تزعجه مكبرات الصوت التي يتم استعمالها في بعض مساجد المملكة في شهر رمضان لإسماع كلام الله جموعَ المصلين الذين ضاق بهم المسجد فاصطفوا خارجه للصلاة..
كيف لمن هذا حاله أن يكون موقفه اتجاه: القرآن.. وأهل القرآن.. ودور القرآن..
فالمسألة واضحة لا تحتاج منا عناء ولا كثير بيان؛ لتوضيح أن المشكلة ليست في دور القرآن أو حقوق الإنسان أو التسامح أو التعايش والانفتاح..؛ بقدر ما أن غلاة العلمانية هؤلاء حريصون على محاصرة كل ما من شأنه أن يشارك في انتشار التدين في المجتمع وتقديم أحكامه على ما يعارضها من أحكام المواثيق الدولية؛ بدليل أن هؤلاء الذين يحذرون من “الإسلام الوهابي” المزعوم!! ويظهرون الغيرة على “الإسلام المغربي السمح”!! يهاجمون كثيرا من الأحكام الشرعية المتفق عليها بين علماء الإسلام في المشرق والمغرب..
ولئن كنا قد سئمنا من أسلوب الروغان والنفاق الذي ينهجه العلمانيون؛ إلا أن ما يبعث على التفاؤل والفرح أن أبناء هذا الوطن -وخاصة الشباب- صاروا على بصيرة ودرجة كبيرة من الوعي بمخططات هاته الفئة؛ ولم تعد تنطلي عليهم حيل وخدع الاستئصاليين..