هل هناك برزخ بين (الديني) و(السياسي)؟!

بات هذا السؤال اليوم يطرح نفسه بإلحاح؛ خاصة أن موضوعه يعد فيصلا بين مرجعيتين متناقضتين؛ الأولى منها تنطلق من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ وتعتقد أن مَالك المُلك وخالقه؛ وباعثَ الرسولِ وحافظَه؛ هو من يملك حق التشريع وسياسة أمور الخلق؛ وأن الشريعة نظمت المجال السياسي بإحكام؛ وأن السياسة لا تخرج عن إطار الدين؛ شأنها في ذلك شأن الاقتصاد والاجتماع والثقافة..
والثانية ترتكز على إنتاجات عقول بشرية ونظريات فلسفية؛ وبالأساس على تجربة غربية مريرة؛ عانت فيها أوروبا عقودا طويلة من تسلط الإكليروس الذي أذل العباد وفرض عليهم الخضوع والاستسلام المطلق لتشريعات وضعها -افتراء- باسم الإله، فأتباع هذه المرجعية يعتبرون أن الدين يجب أن يبقى في منأى عن السياسة، وأن السياسة من اختصاصات المخلوق لا الإله، ولا دخل للدين في السياسة على الإطلاق.
ولئن كانت المرجعية العلمانية التي شكلت أرضيتها في الغرب قبل الثورة الفرنسية قد يجد لها بعضهم مبررا؛ بحكم تسلط الكنيسة وتحكم قساوستها في مصير الناس في الحياة وحتى بعد الممات، فإن تبني من يعلن انتسابه إلى الإسلام لهذه المرجعية لا مبرر له إطلاقا سواء من الناحية العلمية أو العقلية.
فقد أصبح موقف العلمانيين تجاه (الدين) والمتمسكين به داخل بلاد المسلمين أشد عدائية منه في بعض بلاد الغرب؛ حيث عمدوا إلى محاصرة كل أنواع التدين في المجتمع وعملوا على تجفيف القنوات التي تغذيه؛ وجعلوا من المعلوم من الدين بالضرورة قضايا تجب إعادة مناقشتها؛ ودعوا إلى “إعادة النظر في جميع العقائد الدينية عن طريق إعادة القراءة لما قدمه الخطاب الديني عامة” و”مراجعة كل المسلمات التراثية” و”طرد التاريخ التقليدي من منظومتنا الثقافية لأنه بناء عتيق تهاوت منه جوانب كثيرة” واستبدال ذلك كله بالحداثة التي “تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه؛ لأن ذلك وحده -وفق منظورهم- هو السبيل إلى تدشين سلسلة من “القطائع” معه؛ وإلى تحقيق تجاوز عميق له، وإلى تراث جديد نصنعه”، فالدين عند المعتدلين من أبناء هذه الطائفة لا يجب أن يخرج عن إطار السلوك الفردي! ولا دخل له بتاتا في تأطير أي من مجالات الحياة الأخرى خاصة السياسية منها.
ومنه فإن كل النصوص التي جاءت في الكتاب والسنة التي تنصُّ على وجوب العمل بالسياسة الشرعية والتحاكم إلى ما نصت عليه الشريعة الإسلامية؛ وكذا التاريخ الطويل الممتد من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى سقوط الخلافة العثمانية المجسد لنظام الحكم في الإسلام؛ كل ذلك لا اعتبار له عند حاملي هذا الفكر.
ذلك أنهم لا ينظرون إلى الإسلام إلا بمنظار الغربيين للتوراة والإنجيل؛ ولا يدركون -أو ربما لا يريدون أن يدركوا- أن الإسلام هو رسالة خاتمة لم يطلها التحريف؛ ورسالة عامة لكافة بني البشر تشمل جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وهو كل لا يتجزأ؛ فكما يستحيل تجريده من بُعده العقدي أو السلوكي فكذلك التشريعي، يدرك ذلك دون كلفة أو عناء كل تال لكتاب الله تعالى مقلب لصفحاته.
قال الحق سبحانه مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء:105)، وقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49)، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام:57).
فالسياسة الشرعية مصدرها إلهي؛ والسياسة الوضعية مصدرها بشري.
هذا وإن نظام الحكم في كافة بلاد المسلمين لم يعرف الفصل بين (الديني) و(السياسي) إلا بعد دخول الاحتلال وعمله بالتدرج على إقرار العلمانية في نظام الحكم؛ وبعد خروجه تولت فلوله خدمة هذا المشروع باستماتة وتفان منقطع النظير.
فإذا ما أخذت وزيرا أو مسؤولا مسلما غيرةٌ أو عزة وعزم على أن يتصدى أو يمنع أمرا محرما شرعا وممنوعا قانونا أيضا؛ كالخمر والميسر والسياحة الجنسية والمهرجانات المتسيبة المتفسخة وغير ذلك؛ سارعت هذه الفلول إلى إخراج ألسنتها الحداد وسلاحها العتيد (الإعلام) لتشنع على المسؤول “المتشدد” الذي يحن إلى الدولة الدينية؛ ويتحالف مع قوى الظلام لمحاربة المشروع الحداثي؛ ويضيق الخناق على الحريات الفردية!!
هذا هو خطابهم وتلك هي مصطلحاتهم؛ ولئن كانت المرجعية العلمانية ترى أن لا دين في السياسة فهذا شأنها؛ وعليها أن تعلن صراحة عن أي دين تتحدث وأي دين تقصد، لأن الإسلام كعقيدة وشريعة يقر غير هذا الكلام؛ وينص بما لا مجال فيه للشك أن السياسة من الدين، بل إن القيام على أمور الناس بما يصلحهم من أعظم القربات وأجل الطاعات.
فالفصل بين الديني والسياسي وجعل برزخ بينهما ما هي إلا شبهة خرجت من مشكاة دعاة العلمانية؛ سوقتها أجهزتها وقنواتها الإعلامية وجعلت منها حقيقة لا تقبل النقاش؛ إلى درجة أن أصبحت مسلمة لدى العديد من أرباب السياسة الذين لم يتربوا في ظل ثقافة إسلامية صحيحة.

(ن.غ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *