الديـن والحـرية ذ.عبد القادر دغوتي

الحرية مطلب كل إنسان، وشعارها يرفعه كل الناس. لكنهم يختلفون ويفترقون عند تحديد مفهومها وتطبيقاتها، حتى أن منهم من يرى كمال الحرية في التحلل من أحكام الدين وقيمه، فتتمثل الحرية عنده في سفور المرأة وتبرجها، وفي إباحة الخمور والزنا، وفي الإفطار العلني في نهار رمضان…الخ. إلا أن النظر بعين الإنصاف والموضوعية يقرر أن الحرية الحقة لا تتحقق إلا بالالتزام بالدين عقيدة وسلوكا.
فإن الغاية التي لأجلها أرسل الله رسله وأنزل كتبه؛ هي إرشاد الإنسان إلى التعبد الاختياري المطلق للرب الخالق سبحانه وحده، دون غيره من الأرباب المزيفة التي قد يزين الشيطان والنفس والهوى عبادتها.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “القصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”1.
وبقدر ما يحقق الإنسان العبودية الاختيارية الخالصة لله تعالى وحده؛ بقدر ما يتحرر من قيود الاستعباد وأغلال الارتهان لغيره سبحانه، فتتم له حريته وتحفظ له كرامته…
وما التعبد لآلهة مزعومة -غير الإله الحق جل وعلا- إلا طمس لنور العقل وإخماد لفكره وسلب لحرية العبد وانتهاك لكرامته ومسخ لآدميته.
لذا فإن أنبياء الله ورسله وورثتهم من العلماء، هم الذين قادوا بحق مسيرة التحرير وحملوا لواءها، شعارهم في ذلك: “اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ” (المؤمنون 32) ومنطلقهم “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”( الإسراء 70)
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أكثر الناس إدراكا لهذا المقصد الجليل وأكملهم وعيا بهذه القضية الخطيرة. وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل ربعي بن عامر لما سأله رستم قائد الفرس: ما جاء بكم؟ فقال: “الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”2.
ومثل هذا المعنى عبر عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صيغة استنكار على كل من تجرأ على المساس به؛ “يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.
إن الحرية التامة التي يتوق إليها كل صاحب نفس أبية، ليس لها إلا طريق واحد هو طريق الدين، طريق التوحيد الخالص والعبودية الاختيارية الخالصة لله تعالى. وأي خروج عنه فهو سقوط في أوحال الاستعباد الذي يقيد الإنسان ويشل حركته ويثلم عرضه ويخدش كرامته كيفما كان نوعه ولونه… ومن ذلك:
– الاستعباد الشهواني:
بأن يصير الإنسان عبدا ذليلا لشهواته الجسدية الطينية، فلا يكون له هم أكبر من قضائها ولا همة أعلى من إشباعها؛ فينفق عمره ويهدر طاقاته في ألوان وفنون الإشباع الشهواني، حتى تنتهي به إلى ممارسة سلوكات شهوانية تشذ عن الفطرة الآدمية السليمة وتهوي به دركات إلى حضيض البهيمية، بل إلى أسفل منه “وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ”(محمد:12) فقد استعبدتهم الشهوات وذلتهم وأصمّت أسماعهم وأعمت أعينهم وغطت عقولهم “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً” ( الفرقان 44).
إن الشهوات المركبة في الإنسان ليست مقصودة لذاتها؛ وإنما جعلت وسائل معينة في طريق إنجاز مقصد عظيم هو الاستخلاف في الأرض بإعمارها وإصلاحها.
فهي مقصودة قصد وسائل لا قصد غايات؛ أو بالقصد التبعي لا بالقصد الأصلي، وإشباعها مطلوب بقدر ما يحقق مقصد إعمار الأرض وإصلاحها، ثم هو -أي الإشباع- مشروط بألا يعود على هذا المقصد بالإبطال.
لذلك فإن الإسلام يهدي الإنسان منهجا متكاملا لتحرير نفسه من قيود العبودية الشهوانية والتسامي عليها، ثم التوسل بها -لا إليها- إلى ما يخدم مصلحة الإنسان فردا ومجتمعا في المعاش والمعاد… ومن معالم هذا المنهج المتكامل، نذكر:
الاستحضار الذهني (القلبي) للمقصد الشرعي في أي سلوك شهواني.
ويعبّر عن هذا بتصحيح النية، والإسلام يعتد بالنيات في قبول الأعمال أو ردّها وفي تصحيحها أو إبطالها، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..”3.
وبهذا الاستحضار القلبي الذهني للمقصد الشرعي، يسمو الإنسان بشهوته من ممارسة بهيمية بحتة إلى عمل تعبدي لله تعالى يجزيه ويثيبه عليه.
وفي هذا يقول النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام “…وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”4.
فالإنسان الحر المتعبد لله وحده، لا تستعبده شهوته ولا تحكمه فيلبي نداءها سالكا إليها أي طريق؛ إنما هو من يحكمها فيهذّبها ويمنع طغيانها، فتكتمل حريته.
قال الحسن البصري رحمه الله: “مكتوب في التوراة خمسة أحرف -وذكر منها- والحرية في رفض الشهوات”5.

مباشرة الشهوة بالقدر الذي يخدم المقصد الشرعي من تركيبها في الإنسان
فما دامت أنها وسيلة وليست مقصدا في حد ذاتها؛ فإن ممارستها إنما هو مطلوب بالقدر الذي يخدم القصد الشرعي منها، ومن ثم نجد نصوص الشرع تحث على القصد والتوسط، وتنهى عن الإفراط والإسراف.
قال تعالى: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين”(الأعراف 31) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ما ملأ آدمي وعاء شرّا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”6.
إنه باتباع هذه التعاليم، يتربى الإنسان على الحرية وتكتمل عنده مقومات المناعة ضد أي استعباد، مناعة تبقيه متحررا من قيود الشهوات الطينية التي تثقله وتشده إلى الأرض، مناعة تجعله سيدا لا مسودا متحكما في شهواته لا محكوما بها.
فالحاصل أن الشهوة في الإنسان قوة وطاقة، قد تستعبد الإنسان إذا حاد عن مبدأ العبودية الاختيارية لله تعالى، وقد يستعبدها هو فيسخرها لما يخدم ما فيه صلاح معاشه ومعاده إذا حقق العبودية الاختيارية لله تعالى وحده.
وللبحث بقية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي 2/128.
2- إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، محمد الخضري بك، ص:57.
3- صحيح البخاري.
4- صحيح مسلم:1006.
5- تنبيه الغافلين للإمام الفقيه أبي الليث نصر بن حمد الحنفي السمرقندي، ص:160.
6- سنن الترمذي:2380.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *