بين العبوديّة والعبادة

كثيراً ما تتردّد على ألسنتنا كلمة: العبوديّة، وكلمة: العبادة، وهما بحقّ مفتاح شخصيّة الإنسان، وشعار حياته ودثارها، ومفرق الطريق بين إنسان الدنيا، وإنسان الآخرة.. ولابدّ لنا من وقفة عند هاتين الكلمتين نتبيّن بها بعض الحقائق..
قال في لسان العرب: “عَبَدَ الله يعبُدُه عِبادة ومعبداً ومعبَدةً تألّه له، ورجل عابد من قوم عبَدةٍ وعُبُدٍ وعُبّد وعبّاد، والتعبّد التنسّك، والعبادة الطاعة أو الطاعة مع الخضوع.. ويقال: فلان عبدٌ بيّن العبودة والعبوديّة والعبديّة، وأصل العبوديّة: الخضوع مع التذلّل.
وقال في المعجم الوسيط: “عَبَدَ يعبُد الله عبادة وعبوديّة: انقاد له وخضع وذلّ.. والعبادة: الخضوع للإله على وجه التعظيم، وعبُد يَعبُد عُبوداً وعُبوديّة: مُلِكَ هو وآباؤه مِن قبل”.
وقال الراغب الأصفهانيّ في المفردات: “العبوديّة إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منهَا لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلاّ من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى”.
وأرى أنّ هذا التفريق لا يعين عليه المعنى اللغويّ المنقول آنفاً، إذ يشير إلى تقارب للمعنيين، ولكنّ زيادة المبنى في “العبوديّة” ترجّح زيادة المعنى على العبادة، وهو ما اتّجهت إليه في المعنى الاصطلاحيّ، والله تعالى أعلم.
ـ وأمّا من حيث المعنى الاصطلاحيّ للعبادة: فقد عرّف الإمام ابن تيمية رحمه الله العبادة تعريفاً جامعاً بقوله: “العبادة: هي اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفّار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميّين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة..وكذلك حبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكّل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله..”.
وهذا التعريف على وجاهته وشموله يتناول مظاهر العبادة ومفردات أعمالها، ولا يعرّج على وصف حقيقتها، وتحديد معالمها.
وأمّا تعريف العبوديّة من الوجهة النفسيّة: فهي شعور بالعبديّة حاضر، وتلذّذ في الخدمة ظاهر، والجمع بين ألوان من العبادة بما يناسب كلّ وقتٍ ويلائمه، واستغراق للوقت والجهد فيما يحبّ المعبود ويرضى.
فالفرقُ إذن بين العبوديّة والعبادة: أنّ العبوديّةَ تعبّر عن منهجٍ شُموليّ، والعبادة جزء خاصّ من هذا المنهج، أو هي أهمّ مفرداته.
وهناك نوع من العبوديّة أحبّ أن أسلّط الضوء عليه في هذا الحديث، إنّه: “العبوديّة الحركيّة” ..فماذا أقصد بالعبوديّة الحركيّة؟ إنّه مصطلح قد يرفضه بعض الناس، لأنّه لم يطرق سمعه من قبل .. وأحبّ أن ألتمسَ له في هذا المقام أصلاً ودليلاً:
فلو نظرنا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة العظمى للمؤمنين، لرأينا أنّه كان يتهجّد بالليل.. ويصلّي بالناس الفجر.. ثمّ يُمضِي الوقت بين علم وتعليم، وتفقّد لأصحابه، وحلّ لمشكلاتهم، ولقاء مع الوفود، ودعوة إلى الله تعالى، وجهاد في سبيله.. ومؤانسة لأهله، وملاطفة ومداعبة للأطفال هادفة، وخدمة خاصّة لنفسه، ولأهل بيته.. وهو في جميع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى ولا يملّ..
فالعبوديّة الحركيّة تجمع بين التمسّك بالحقائق الإيمانيّة والنشاط الحركيّ، الذي يعطي لكلّ موقف حقّه، ولكلّ وقت ما يناسبه، وممّا يعبّر عن ذلك ويشير إليه ما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ).
وفي حياة الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه: أنّه كان يعسّ في الليل.. ويخدم بنفسه الأمّة كبيرها وصغيرها.. ونساءها وأطفالها.. بل حتّى بهائمها: إذ يهنأ البعير الأجرب من إبل الصدقة، ويرعاها.. ويخرج إليها في شدّة القَيظ يتفقّدها.. ويراقب بدقّة سمة التوازن في حياة الأمّة.. فيطارد أهل السوق إلى المسجد، وأهل المسجد إلى السوقِ.. وكان يوجّه المتأخّرين بعد الحجّ، أن يسرعوا بالعودة إلى بلادهم: يا أهلَ الشام شامَكم! ويا أهل اليمن يمنَكم! ويا أهل العراق عرَاقَكم!
يقول الأستاذ غالب عبد الكافي القرشيّ في كتابه: “أوّليّات الفاروق السياسيّة”: “لقد كان عهد الفاروق رضي الله عنه أخصب العهود الإسلاميّة على الإطلاق؛ سياسةً واقتصاداً، وتنظيماً لشئون الدولة، ولقد اتّسعت الدولة الإسلاميّة اتّساعاً لم يعرف من قبل، وجدّت أمور مع هذا الاتّساع، وتعدّدت المشكلات، وكان الفاروق نسيج وحده، وَسِعَت سياسته كلّ ما جدّ وتطلّبته حياة الناس، فابتكر أشياء لسياسة الناس ورعايتهم، لم يسبق إليها من قبل، منها هذه الأوّليّات، وهي دروس لا يستغني عنها حاكم دولة، ولا قائد جيش، ولا قاضٍ، ولا فقيه، ولا مشتغل بالسياسة وتنظيم المال”.
ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: “كم من سنّة راشدة مهديّة قد سنّها عمر رضي الله عنه في أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم”.
ولكنّ الحقيقة التي يُهمّنا تقريرها في هذه المناسبة أنّ ما فعله الفاروق رضي الله عنه إنّما فعله بمقتضى عبوديّته لله تعالى، واستلهاماً من عظيم تقواه لله تعالى، وشعوره العميق بالمسئوليّة، وهذا ما جعل عمله متميّزاً نوعاً وعمقاً وأثرا.
سأل الإمام الزاهد القدوة، عبد الله بن المبارك رحمه الله، إخوانه وكانوا معه في الغزو: تعلمونَ عملاً أفضل ممّا نحن فيه؟ قالوا: مَا نعلم، قال: أنا أعلم، قالوا: فما هو؟ قال: “رجل متعفّف ذو عائلة، قام مِن الليل، فنظر إلى صبيانه نياماً منكشفين، فسترهم، وغطّاهم بثوبه، فعمله أفضل ممّا نحن فيه”.
والنماذج على ذلك من حياة الصحابة وسلف هذه الأمّة الصالح أكثر من أن تحصى..
ثمّ تحوّل كثير من أهل الخير إلى شخصيّة ذات نمطٍ واحدٍ، وبعدٍ واحدٍ تضخّمه، ولا تتعدّاه.. بل تنتقص ما عداه، وتقلّل من جدواه.. ثمّ اجتُزئت تلك الشخصيّةِ في جزئها.. ثمّ اجتزئ الجزء إلى جُزَيءٍ، وتسلّطت عليه الأهواء.. وقدّم ذلك السلوك القاصر للناس على أنّه المنهج الأمثل، والسلوك القدوة.. فماذا ننتظر بعد ذلك؟!
فالغنيّ المحسن لا يرى الإحسان إلاّ في إطعام الطعام، وإغاثة الأرامل والأيتام، ولو دعي إلى أنواع أخرى من وجوه الخير والبرّ، ونشر الدعوة، ونفع الأمّة لما ساهم فيها بشيء.. وربّما وقع إحسانه بغير محلّه، وقوفاً مع هواه وقصور رأيه..
وطالب العلم النبيه تراه يألف نمطاً من الدعوة والعمل، ولا يتعدّاه.. ولو دعي إلى ما هو أهمّ منه وأولى، وأكثر نفعاً للأمّة، وأعظم أجراً.. تراه يعتذر ويتأبّى.. وربّما قضى عمره في علم لا ينفع، أو فيما يفرّق الأمّة، ويزيد مآسيها..
وربّما اختار بعض المتصدّين للدعوة وإرشاد الناس منهجاً من نوافل الأذكار وفضائل الأعمال، والناس أحوج ما يكونون إلى إحياء فرائض الإسلام، وتثبيت أركانه..
ومشكلة الأمّة في أحد أهمّ وجوهها: عبادة بغير حركة، أو حركة بغير عبادة.. أو حركة يلتبس بها هوى النفس والانتصار لها بالعبادة، فتتعطّل جوانب مهمّة من الدين، ولا يكون للعمل بركة ولا أثر.. وربّما عاد على الأمّة بأبلغ الشرّ والضرر..
والعبوديّة الحركيّة قوامها رحمة الخَلْق ونفعهم، والشفقة عليهم والرفق بهم، والدعوة إلى الله تعالى والنصح لعباده، وهي أعظم حاجات الأمّة، وأحبّ الأعمال إلى الله تعالى، وهي من أهمّ فروض الكفاية، التي قصّرت بها الأمّة، فآل أمرها إلى ما هي عليه من شتات وتخلّف.
من كتاب مع أشجان الروح
للدكتور عبد المجيد البيانوني بتصرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *