لماذا لا ننتفع بالقرآن؟

القرآن هو المنبع العظيم للإيمان الذي لا يوجد له مثيل؛ ويكفي أنه ينادي على الجميع أن هلموا إلىَّ واستكملوا نقص إيمانكم فمنابعي ممتلئة وجاهزة لإمدادكم جميعًا بما تحتاجونه من إيمان (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ) (آل عمران 193).
يقول محمد بن كعب القرظي: (المنادي هو القرآن ليس كلهم رأى النبي عليه الصلاة والسلام).
فالقرآن له قوة تأثير ضخمة على القلوب لا يناظره فيها مصدر آخر وكيف لا وهو كلام رب العالمين الذي إذا استقبلته الجبال الرواسي لتصدعت واندكت من قوة تأثيره عليها (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر21).
فإن كان الإيمان للقلب كالروح للبدن فإن القرآن يمثل العمود الفقري لهذا الإيمان… لذلك ليس عجبا أن يُسمى القرآن بالروح (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) (الشورى 52).
فإن كان القرآن كذلك فهل أدرك المسلمون قيمته وهل أحسنوا الانتفاع به؟!
هل تعاملوا معه على حقيقته كمصدر متفرد لزيادة الإيمان ومن ثمَّ التغيير؟!
للأسف لم يحدث هذا… بل حدث العكس.. فلقد انصب اهتمام الغالبية منهم إلا من رحم ربي على الناحية الشكلية للقرآن ولم يواكب ذلك اهتمام بتدبره والتأثر به والاغتراف من منابع الإيمان التي تتفجر من كل آية من آياته لتستمر الأمة في ضعفها وعجزها عن النهوض من كبوتها وكيف لا وقد هُجر أهم وأعظم مصدر للإمداد الإيماني.
ومما يزيد الأمر صعوبة أن الكثيرين لا يعترفون بذلك بل يعتبرون أن الاهتمام بالقرآن يعني الإكثار من قراءته بفهم أو بدون فهم ويعني كذلك تخريج أكبر قدر من حُفَّاظ ألفاظه في أقل وقت ممكن .. فازداد القرآن يُتما وأصبح حاضرًا وغائبًا.. موجودًا ومهجورًا.
صار حاضرًا بلفظه على ألسنة الُقَّراء والحفاظ لكنه غائب بروحه وأنواره عن القلوب وأثره الإيجابي في السلوك.. صار موجودا بشكله من خلال المطابع والإذاعات والمدارس والكليات والمسابقات لكنه مهجور في حقيقته وتأثيره على القلوب وتغييره للأخلاق والسلوك.
فإن قلت هلموا إلى القرآن ننتفع به.. قيل لك: وماذا علينا أن نفعل مع القرآن أكثر مما نفعل… فأغلب بيوت المسلمين إن لم تكن كلها تحتوي على نسخة أو عدة نسخ من المصحف؛ والكثير من الأسر تجد فيها من يحفظ قدرًا من القرآن والإذاعات التي تبث آياته ليل نهار في ازدياد مستمر!!
فها هو القرآن يُتلى علينا ويُقرأ بين ظهرانينا… فهل تغيرت به نفوسنا وانطبعت عليه أخلاقنا وفعل في قلوبنا كما كان يفعل في قلوب أسلافنا؟
لا أيها المسلمون.. لقد صرنا نقرأ القرآن قراءة آلية صرفة .. كلمات تتردد ونغمات تتعدد ثم لا شيء إلا هذا.. أما فيض القرآن وروحانيته وهذا السيل الدافق من التأثير القوي الفعال فمن بيننا وبينه حجاب… ولهذا لم نكن صورة من النسخة الأولى التي تأثرت بالقرآن وتبدَّلت نفوسها به.
فما هي أهم العوائق والعقبات التي تقف في طريق انتفاعنا بالقرآن؟

1- الصورة الموروثة عن القرآن
إن أكبر عقبة تواجهنا نحو الانتفاع بالقرآن هي تلك الصورة الموروثة عنه.
إن الصورة التي طُبعت في أذهاننا في مراحل الطفولة للقرآن أنه لا يُستدعى للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة أو عند زيارة المقابر أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية وهي قراءات لا تتجاوز الشفاة.
فإذا انتقلنا إلى مراكز ودروس تعليم القرآن الكريم رأينا أن الطريقة التي يُعلَّم بها يصعب معها استحضار واصطحاب التدبر والتذكر والنظر إن لم يكن مستحيلاً..
فالجهد كله ينصب إلى ضوابط الشكل من أحكام التجويد ومخارج الحروف وكأننا نعيش المنهج التربوي والتعليمي المعكوس… فالإنسان في الدنيا كلها يقرأ ليتعلم أما نحن فنتعلم لنقرأ لأن الهم كله ينصرف إلى حسن الأداء…
وقد لا يجد الإنسان أثناء القراءة فرصة للانصراف إلى التدبر والتأمل؛ وغاية جهده إتقان الشكل وقد لا يعيب الناس عليه عدم إدراك المعنى قدر عيبهم عدم إتقان اللفظ؛ ونحن هنا لا نهوّن من أهمية ضبط الشكل وحُسن الإخراج وسلامة المشافهة ولكننا ندعو إلى إعادة النظر في الطريقة حتى نصل إلى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر التي تترافق مع القراءة.
فمن الأمور البديهية التي لا يختلف عليها اثنان أن الدافع للقراءة هو المعرفة؛ فالذي يتناول بيده كتابًا أو جريدة ليقرأ فيها فإن الذي يدفعه لذلك هو المعرفة.. معرفة ما وراء الخبر وما يحتويه من معارف ومعلومات وفي المقابل فلا يمكن لعاقل أن يقرأ أي شيء بلسانه أو بعينه دون أن يُعمل عقله فيما يقرؤه أو يفكر في معانيه!!
تخيل لو أن شخصًا يفعل ذلك.. ماذا تقول عنه؟
وكيف يكون تقييمك له؟!
ألا توافقنا في أنك ستعتبره إنسانًا غير سوي.
هذا المفهوم البدهي للقراءة قد تعارف عليه الناس في جميع الأزمان والأمصار على اختلاف مذاهبهم وأديانهم… فالذي يقرأ إنما يقرأ لأنه يريد أن يتعلم شيئًا من خلال هذه القراءة والذي يطلب من غيره قراءة شيء ما فإنه يقينًا يريد من وراء هذا المطلب أن يفهم المقصود من الكلام المقروء.
لقد أنزل الله القرآن ليقرأه الناس ويتدبروا معانيه ويفهموا المراد منه ثم يجتهدوا في العمل به.. فهل فعل المسلمون ما أمرهم الله به؟!!
للأسف لا؛ بل جعلوا عملهم مع القرآن هو القراءة ولم يجعلوا القراءة وسيلة لفهم المراد من الآيات والعمل بها، وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لقد أنزل الله القرآن ليُعمل به فاتَخَذوا تلاوته عملا).
لقد عرف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فضل القرآن وتلاوته فجعلوه مصدر تشريعهم ودستور أحكامهم وربيع قلوبهم وورد عبادتهم وفتحوا له قلوبهم وتدبروه بأفئدتهم وتشربت معانيه السامية أرواحهم، فأثابهم الله في الدنيا سيادة العالم ولهم في الآخرة عظيم الدرجات، وأهملنا القرآن فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف في الدنيا ورقة في الدين.

2- قصر وظيفة القرآن على تحصيل الأجر والثواب
من المفاهيم التي ينبغي أن تُصحح عند المسلمين قصر وظيفة القرآن على تحصيل الأجر والثواب والتبرك… فالمفهوم السائد أنه إن كان لكل حرف يقرؤه المرء من القرآن له به عشر حسنات فليقرأ إذن أكبر قدر ممكن من الحروف ليزداد رصيده من الحسنات، وفي الوقت نفسه فإن تدبر القرآن والوقوف عند معانيه سيعطل مسيرته عن قراءة أكبر قدر ممكن من الآيات ومن ثمَّ يفوته الكثير من الحسنات، إذن فلنترك التدبر جانبًا لتحقيق هدف الثواب والأجر!!
بمثل هذا الفهم ابتعد الكثير عن تدبر القرآن وتسابقوا فيما بينهم على ختمه في أقل وقت ممكن خاصة في شهر رمضان، وبالرغم من أن آيات القرآن وأحاديث الرسول تحث على التدبر والتأثر وتذم من يقرأ القرآن ولا يجاوز حنجرته، إلا أن حب النفس للراحة والشعور بالرضا بعد كل إنجاز (كَمِّي) ينجزه المرء مع القرآن جعلها تستريح لمفهوم أن الهدف من قراءة القرآن هو تحصيل الأجر والثواب، وأن هذا الهدف يتحقق بمجرد قراءة الألفاظ دون تفهم ولا تأثر.
فمما لا شك فيه أن الأسهل على الإنسان القراءة السريعة للقرآن والتي قد يشرد معها العقل في أودية الدنيا فيشعر المرء بعد القراءة براحة نفسية لمجرد إنجازه كمًا كبيرًا من الأرباع والأجزاء دون مجهود يُذكر، فيصبح هذا الشعور دافعًا له للإكثار من القراءة خاصة في شهر رمضان فتحول بذلك مسار التعامل مع القرآن وبدلاً من أن تكون قراءته وسيلة لفهم المقصود منه أصبحت غاية يتنافس فيها المتنافسون.

3- أمراض القلوب والإصرار علي الذنوب
إن مما يحول بين القلب وبين الانتفاع بالقرآن كثرة الذنوب والمعاصي حتى يقسو بها القلب وي

حـرم صاحبـه من لـذة الطاعـة والمناجاة لله سبحانه بذكره وكلامه…
فكلما تخفَّف العبد من المعاصي وتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات بدايةً بالفرائض ثم النوافل كان حظه من تدبر كلام الله عز وجل والتأثر به أكثر وأعظم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (ومن عقوبات المعاصي أنهـا تعمـي القلـوب فـإن لـم تعمـه أضعفت بصيرتـه ولا بـد. قال الله تعالى (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف36).
فأخبر سبحانه أن من عشا عن ذكره وهو كتابه الذي أنزله على رسوله فأعرض عنه وعمي عنه وعشت بصيرته عن فهمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانًا عقوبة له بإعراضه عن كتابه) اهـ.
إن القلب لا يمكنه أن يسمو إلى المعالي وعظيم الفضائل ويشتاق ويطمئن إلى كلام الله وهو يعيش مع الجيف والنتن وسفاسف الهمم التي تحوم عليها همم أراذل الناس..
فالقلب المشغول عن القرآن بغيره لا يتأثر به لتشعبه في أودية الدنيا وغفلته عن تدبر كتاب الله، كما أن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان.. فالقلب المريض لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يا مسلمون قرآنكم في رمضان؛ هاني درغام؛ بتصرف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *