ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم جلال اعويطا

قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: (نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل وذهاب القوة، ونهى أيضاً عن الفرقة في مواطن أخر منها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران)، وقوله تعالى: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم، وقال بعض العلماء: نصركم).
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: ({وَلاَ تَنَازَعُواْ} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، (فَتَفْشَلُواْ) أي تجبنوا، (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي تنحل عزائمكم وتتفرق قوتكم ويُرفع ما وُعدتم به من النصر على طاعة الله ورسوله).
وقال القرطبي: «إن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة؛ لأن الفرقة هلكة والجماعة نجاة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «من قواعد الدين العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة، وجماع السنة: طاعة الرسول» (الفتاوى 28/51).
وقال أيضا: «وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفورا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك، لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة» (الفتاوى 22/356 وما بعدها).
إن الباعث على سرد هذه الآيات الكريمات؛ والأقوال النيرات؛ هو التأكيد على أهمية هذا الأصل العظيم؛ ومحاولة صادقة لوحدة الصف والتعاون المثمر، فقد تعددت أسباب الافتراق وتنوعت ألوانه.
والمتأمل في واقع الدعوة إلى الله تعالى يلحظ ما أصابها من ضعف وهوان بسبب الفرقة والتنازع في مسائل لا تعدو أن تكون اجتهادية، أو في أخرى قد حسم فيها النقاش وفصل فيها كبار أهل العلم، فالكل همه واحد وسعى لهدف واحد؛ وهو إعادة بناء مجد هذه الأمة من جديد انطلاقا من مرجعية الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ولكنهم مع كامل الأسف تفرقت قلوبهم؛ واختلفت كلمتهم؛ وتشتت صفهم، وهذا من أسباب تسلط أعداء الدين على الدعوة والأمة.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال وكأنه يعيش بين أظهرنا اليوم: (هذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، أمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها).
والفرقة دائماً بلاء يفسد كل صالح من الأعمال ويقطع عنه أكثر نتائجه، فكيف إذا تحولت الفرقة إلى تدابر وتنافر وتنابز؟!
ولعل كلنا يعلم أن أي هدم أو شرخٍ في وحدة أمة الإسلام إنما هو بسبب داخلي فيها وليس لأمر خارجي عنها، لأن الله قد أعطى الأمة ألا يهلكها بسنة بعامة؛ وألا يسلط عليها عدوا من سوى أنفسها حتى لو اجتمع عليها من بين أقطارها أو من في شمالها إلى جنوبها، ومن في غربها إلى شرقها مهما تآلبوا وتسلطوا على أمة الإسلام، لن يستطيعوا أن ينالوا من هذه الأمة شيئاً ماداموا مجتمعين، أما إذا تسلط بعضهم على بعض من داخلهم، وإذا ثارت العصبيات فيما بينهم وهم في أرض واحدة وتحت لواء واحد، فإن هذا نذيرٌ ومهدد بقرب تسلط عدو من الأعداء عليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي الحديث عند مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
(إنه لم يوجد دين كدين الإسلام حث على الاجتماع، وحذر من الافتراق، بل لقد استطاع تحويل المجتمعات الممزقة المفرقة إلى مجتمع واحد متماسك متآزرٍ متآخٍ متآلفٍ، يرحم بعضه بعضاً. ومن هنا لا بد أن يعلم الناس جميعاً أنهم كلما زاد تمسكهم بالدين كلما زادت وحدتهم وألفتهم، وكلما بعدوا عن الدين تفرقوا وتمزقوا).
واسمع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يحكي تجربته الشخصية والعملية في نبذ الفرقة وجمع الكلمة وتأليف القلوب إذ يقول: (والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين وطلباً لاتفاق كلمتهم واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله؛ وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أَجَلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة) (مجموع الفتاوى 3/227).
وبيَّن لأصحابه وتلاميذه منهجه الذي يسير عليه تجاه المسلمين، والذي لا يحيد عنه، وهو تقديم مصلحة المسلمين وإحسان الظن بهم، حيث قال: (وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها -أي فتنة خصومه- وفي غيرها، وإقامة كل خير).
هذا في توحيد صفوف المختلفين في الأصول؛ فكيف والاختلاف اجتهادي بين أبناء الدعوة الواحدة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *