وجه الإسلام الاهتمام إلى فئات عريضة من المجتمع ممن تظهر عليهم الحاجة والفاقة، أو العجز والمرض، أو العاهة والإعاقة.. وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسنة والآثار التي تؤكد هذا المعنى العظيم، وجدناها من الكثرة بمكان، منها ما هو صريح، ومنها ما هو إشارة وتلميح
ومن الفئات التي عني الإسلام بها بشكل كبير؛ فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ إن هؤلاء من أحوج الناس إلى الاهتمام والعناية والرعاية، وتكاتف المجتمع معهم ليستطيعوا التغلب على العجز الذي أصابهم، وليندمجوا مع أفراد المجتمع ويصيروا طاقة بناءة.
وتقع المسؤولية في هذا المضمار على كاهل المجتمع والدولة على حد سواء، حتى يوفر لهم ما ييسر حياتهم، ويعوضوا عما فقدوا من حواس أو أصيبوا به من عاهات، تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” .
فوجبت العناية بالعميان وضعاف البصر والصم والبكم وضعاف العقول والمعتوهين وذوي العيوب الكلامية والصرعى وأصحاب الأمراض المزمنة والإعاقات الحركية وغيرهم، وذلك للتخفيف عنهم ليشعروا بشخصيتهم وكيانهم، ولتزول عقدة مركب النقص وشعورهم بالضعف والدونية، وليصيروا لبنات صالحة في هيكل المجتمع وأعضاء نافعين في جسد الأمة.
وإن من أعظم صور العناية بذوي الاحتياجات الخاصة إتاحة الفرصة لهم ليقوموا بدورهم في الحياة الاجتماعية، ويندمجوا في مجتمعاتهم.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف ابن أم مكتوم رضي الله عنه على المدينة ليصلي بهم وهو أعمى، بل قد كان رضي الله عنه مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن عناية الإسلام بهم أن طالب المسلمين بكف الأذى المعنوي عنهم، كما في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” ، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه الشريحة الضعيفة فقال صلى الله عليه وسلم: “هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.” يعني أن النصر والرزق يأتيان من الله ببركة هؤلاء.
لقد وضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقة والحرج فقال جل في علاه: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” ، وفي قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه المشهورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي كانت سببا في نزول الآيات الأولى من سورة عبس دلالة شرعية واضحة على تقديم حاجات ذوي الاحتياجات الخاصة على حاجات من سواهم.
بل قد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في العناية بهم، وتطييب خاطرهم، فها هو ذا يجيب دعوة عتبان بن مالك رضي الله عنه، وكان ضريرا، إذ دعاه ليصلي في بيته ليتخذه مصلى يصلي فيه، فتعنى النبي صلى الله عليه وسلم السير إلى أطراف المدينة تطييبا لخاطره، وتقديرا لحاجته، ومراعاة لظرفه.
قال عتبان رضي الله عنه: وددت يا رسول الله لو أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فوعده صلى الله عليه وسلم بزيارة وصلاة في بيته، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر فقمنا فصفنا فصلى ركعتين ثم سلم.
ولعل في هذه الإشارات القليلة بيانا لمدى الرعاية والعناية التي أولتها الشريعة الإسلامية لهذه الفئة من المجتمع، والنصوص في ذلك كثيرة لا يتسع مجال هذا المقال لإيرادها، إذ إن فقهاءنا لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام مسألة الإعاقة، وما قد يطرحه حاملوها من قضايا تشكل عليهم في أمور العبادات والمعاملات والعلاقات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية… ولا أدل على ذلك من تقعيدهم القواعد التي تشمل ذوي الاحتياجات الخاصة، وتفتح باب التيسير أمامهم، فها هو ذا ابن العربي رحمه الله تعالى يعلق على قوله تعالى: “لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ” ، قائلا: [إن الله رفع الحرج على الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشي، وما يتعذر من الأفعال مع وجود الحرج، وعن المريض فيما يتعلق بالتكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها والجهاد ونحو ذلك] .
كما نقل القرطبي في جامعه تعليق ابن عطية قائلا: [وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا] .
وأحب أن أشير هنا إلى أن رفع الحرج عنهم لا يعني انتقاصا من أهلية الأعمى أو الأعرج أو المريض فكريا واجتماعيا، ولكنه فتح للباب أمامهم من أجل التواصل الاجتماعي، ونصوص الكتاب والسنة صريحة في موقفها المبدئي من ضرورة عدم تجاهل الشخص المعاق، وإعطائه الاعتبار الذي يستحقه.
وإذا تتبعنا مباحث الفقهاء في مؤلفاتهم في أحكام العبادات والمعاملات، سنقف على اجتهادات كثيرة وأقوال عديدة تحتاج إلى أن تجمع في مجلدات بأدلتها وتأصيلاتها، ويبرز الراجح والمرجوح منها لتكون مرجعا تستفيد منه هذه الفئة من المجتمع ومن يعنى بها.
قال الدكتور بنحمزة: [وقد توالت الأحكام الفقهية مؤسسة لحقوق المعوقين المادية والمعنوية، فتشكلت من ذلك منظومة تشريعية كاملة يجب إبرازها، والإسهام بها في خضم العناية العالمية الراهنة بالمعوقين ذوي الاحتياجات الخاصة، لتصير العناية بهم لدى الإنسان المسلم جزء من طاعة الله والتقرب إليه] .
وجنبا إلى هذا الاهتمام بالأحكام الفقهية والتكاليف الشرعية ومراعاة الجوانب المعنوية لهذه الفئة، نجد في الحضارة الإسلامية شواهد حية من العناية الاجتماعية المادية بهم، تمثل ذلك في إنشاء مؤسسات صحية ودورا اجتماعية وتربوية تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة، فكان بناء أول مارستان سنة 88هـ على يد الوليد بن عبد الملك، وجعل فيه الأطباء وأجرى فيها الإنفاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا، وأجرى عليهم الإنفاق وعلى العميان.
وعلى هذا النهج سار كثير من الأمراء فصارت توقف دور وتحول قصور إلى مستشفيات وتوفر مداخيلها من صدقات وأموال زكاة وهبات ووقف، ففي عهد المرينين مثلا أقام أبو يوسف البيمارستان للغرباء والمجانين؛ وأجرى عليها النفقات وخصص لها الأطباء.
وأنشأ أبو الحسن المريني في بعض مدن المغرب دورا يسكنها من أدركوا سن الشيخوخة من الفقراء المعروفين بالخيرية والصلاح.
ووجدت بفاس دار لإيواء الشيوخ كانت عبارة عن قصر واسع استعمل فيما بعد في تزويج المكفوفين الذين لا يجدون أماكن تتسع لإقامة أعراسهم.
هذا غيض من فيض مما قد نجده في حضارتنا، وكتب مؤرخينا وفقهائنا مما يشهد شهادة حية على علو الإسلام وأصالة العمل الاجتماعي فيه، وشمولية أحكامه وسعة رحمته. ويرد على اتهام الكثيرين لنا بالإرهاب والعنف وعدم القدرة على التعايش مع الآخرين، والانعزالية والفردية والظلم الاجتماعي.
وبالنظر إلى ارتفاع عدد ذوي الاحتياجات الخاصة في العالم ككل، بسبب الأزمات والكوارث التي تزداد مع مرور الأيام، من فيضانات، وزلازل، وبراكين، وعواصف، وبفعل تهور كثير من مستعملي الطرق، مما يسبب عاهات وإعاقات لأعداد كثيرة من الناس باستمرار، أضف إلى ذلك الحملات الشرسة، والحروب الصليبية التي عرفتها بعض الدول الإسلامية، والتي لا تفرق بين محارب أو مسالم، أو عسكري أو مدني، ولا بين بيت أو ثكنة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين رجل وامرأة، مما خلف متضررين كثرا ومعوقين وذوي عاهات.
صار الحديث عن هذه الفئة من المجتمع ملحا لتحديد اهتمام الشريعة بهم، وبيان ما ضمنت لهم من حقوق تربوية، وتعليمية، واجتماعية، وصحية، ومادية… وما حثت عليه من وجوب توجيههم وتأطيرهم وتطوير ملكاتهم، وإشراكهم في الحياة العامة بشكل يتناسب وقدراتهم دون تحسيسهم بالنقص أو القصور.