فلول فرنسا وأعشاشها مصطفى محمد الحسناوي

من الأعشاش التي بدت واضحة للمواطنين وتابعوا تواجدها وصورها، تلك التي عانى وزير الاتصال من تطهير الإعلام منها خلال معركة ما سمي بدفاتر التحملات، فبدت للوهلة الأولى كأنها عش مهجور، لا يتطلب الأمر إلا شطبه وتنظيف مكانه، فإذا به عش دبابير برية هائجة.
الأمر لم يكن بالسهولة التي اعتقدناها، لأن داء العطب قديم كما قال السلطان عبد الحفيظ، فعش الدبابير الفرنسي بالنسبة لإعلامنا وضعت لبناته الأولى مع تأسيس “راديو المغرب” سنة 1928، ولم يكن له من المغربية إلا الإسم، فقد كانت حصة العربية فيه نصف ساعة في اليوم لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، بمعنى ساعة ونصف من العربية خلال أسبوع كامل، يتم ملأها بالأخبار وحصة من الطرب الأندلسي وبعض الأغاني الأخرى، والبقية للغة والثقافة والأهداف والأطماع والحضارة الفرنسية، منذ ذلك الوقت والعش يفرخ أعشاشا حتى غدا مستعمرة حقيقية، يصعب اقتلاعها.
تتصل هاتفيا بمحام أو طبيب أو جريدة أو أي شركة أو مؤسسة، فيأتيك الرد بصوت نسائي : Bonjour c’est … إن كنت متفائلا هادئا بارد الأعصاب، ستتوقع أن يعقب ذلك الرد، ردا آخر بالعربية، ولما لا بالأمازيغية أيضا، لكن لا شيء من ذلك يحدث، فيتحول هدوؤك وبرودة أعصابك لبركان ثائر فائر، نتيجة هذه المهانة التي نعيشها في بلدنا.
تفتح باب منزلك، أو صندوق الرسائل الملتصق به من الخلف، لتجد رسائل ووثائق مختلفة الأشكال والأحجام والألوان والأهداف والمقاصد، لكنها موحدة اللغة، رسائل من البنك ومن دار الضريبة ومن مصلحة الماء والكهرباء، ومن مدرسة خاصة تعرض عليك عرضا مغريا، ومن السوق الممتاز المحاذي لبيتك بحيك الشعبي يعلن عن تخفيضات، ومن شركة تجارية تعرض منتوجاتها، ومؤسسة أسفار تدعوك لأسفار مريحة وجولات مشوقة، لكن كل ذلك بلغة فرنسية، لست أدري من يخاطب هؤلاء؟
يعقد مسؤول ما مؤتمرا صحفيا فيتحدث مع مواطنيه وصحفيي بلاده بالفرنسية، يحضر مؤتمرا بفرنسا فيتحدث بالفرنسية، يذهب لدولة أخرى لا تتحدث الفرنسية أو يستقبل رئيسها أو أحد مسؤوليها، يستقبله عندنا في المغرب، وعوض أن يتحدث إليه بالعربية أو بلغته الأم، يصر على مخاطبته بالفرنسية، ويضطر لإحضار مترجم، كل ذلك ليؤكد له أنه وفي للبلد الذي احتل أرضه وانتهك حرماته ومقدساته، وأن علاقة التبعية والخضوع والإعجاب والانبهار، لا تمحوها الأيام ولا تطمسها الأعوام. وهو يعتقد أنه يثبت له أنه متعلم ومثقف ومتحضر، فأي جهل وعار هذا الذي نعيشه كل لحظة.
محج حي الرياض بالعاصمة المغربية الرباط، هو محج للفرنسيين والمتفرنسين، أينما غدوت وارتحلت، تصادفك أعشاش هنا وهناك وفلول هنا وهناك، بل المحج كله أحد تلك الأعشاش، فلا ترى إلا لوحات إشهارية بالفرنسية، ولا ترى إلا مطاعم ومقاهي ومحلات تجارية، على النمط الفرنسي من شكلها وهندستها إلا منتجاتها وخدماتها.
شركة اتصالات فرنسا أو لنسمها اتصالات المغرب كما يحلو للبعض تسميتها تمتلك أعلى برج بالرباط بنفس المكان، فيفاندي التي تمتلك 53 بالمائة من أسهم الشركة تنوي المغادرة بعدما انخفضت أرباحها وتراجعت قليلا، مما يدل على علاقة الصداقة المتينة والضاربة بالجذور التي تربطنا مع فرنسا، كما يردد على مسامعنا أبناؤها، حيث من الممكن أن تهتز صورة المغرب في الأسواق المالية، نتيجة هذا الغدر وهذه الطعنة التي تلقتها اتصالات المغرب من شقيقتها الفرنسية في الرضاعة، ومع ذلك لا عبرة لمن يعتبر.
من المفارقات أنه يوجد بمحج الرياض، مقر مجلس الجالية المغربية بالخارج، أليس من الأفضل لو فتحو به مقرا لمجلس الجالية المغربية بالداخل، أو مقرا للجالية المغربية المتكلمة بالعربية؟
تخيلوا معي أن كل ذلك يحدث في فرنسا مثلا، أنك تتجول في فرنسا فتسمع مواطنيها يتحدث بعضهم لبعض بالعربية أو بالدارجة المغربية، تخيلوا معي أن الإدارة الفرنسية تراسل مواطنيها بالعربية، وتقول لهم أنها غير ملزمة بمراسلتهم بالفرنسية إلا إن رغبوا هم بذلك، تخيلوا معي أن الأسواق والمعاهد والمؤسسات والشركات في فرنسا تحدث مواطنيها بالعربية، لا أريد أي شيء آخر، سوى أن يتخيل المرء ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *