الملاحظ أن العلمانيين ينتهجون سياسة الحرب الاستباقية في كل ما من شأنه أن يصبّ في خانة الإسلام ولو بشكل رمزي، فبعد معركة “دفاتر التحملات” التي خرجوا منها شبه منتصرين، دخلوا اليوم في معركة جديدة ضد مشروع قانون يمنع إشهار الخمور.
هذا المشروع الذي من شأنه أن يمنع إشهار هذا المشروب الخبيث على صدر أي وسيلة كيفما كانت، بما فيها المجلات والصحف الأجنبية والمنشورات والملصقات، وينص على عقوبة الحبس لمدة تتراوح بين 3 أشهر وسنتين، وبغرامة تتراوح بين 10 آلاف و25 ألف درهم لكل مخالفي القانون، ويمكن للمحكمة أن تأمر بإغلاق كل محل وقع فيه العرض والإشهار لمدة لا تقل عن عشرين يوما ولا تتجاوز ثلاثة أشهر.
فما إن علمت الزمرة العلمانية بهذا المشروع حتى حذر رؤساء كل من الفيدرالية الوطنية للسياحة، والجامعة الوطنية للصناعة الفندقية، والجامعة الوطنية لوكالات الأسفار، والفيدرالية الوطنية للمطاعم، وجمعية منتجي العنب بالمغرب، من الانعكاسات الاقتصادية لمشروع قانون منع إشهار الخمور الذي تقدم به فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب.
ووجه مهنيو السياحة والصناعة الفندقية وأرباب المطاعم ووكالات الأسفار ومنتجي العنب، رسالة إلى رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس فريق العدالة والتنمية وباقي رؤساء الفرق البرلمانية بمجلس النواب، أكدوا فيها أنه في حالة المصادقة على هذا القانون، فإنه سيلحق أضرارا اجتماعية بأزيد من 100 ألف شخص يعملون في القطاعات المرتبطة بالخمور، وأوضحت الرسالة أن تنصيص الدستور على كون الإسلام هو دين الدولة لا يعني أن يصبح أي شيء مثير للجدل مبررا للمنع.
كما عبرت جمعية منتجي الكروم بالمغرب على أن “منع إشهار النبيذ المغربي المحلي الصنع سيساهم في ضرب هذا الجانب من الفلاحة والصناعة الغذائية في المغرب”، و”النبيذ المغربي يساهم في الاقتصاد الوطني من خلال الضرائب التي نؤديها وفرص الشغل التي نوفرها ونخلقها في قطاعات متعددة، فمنع إشهار منتوجات النبيذ محلي الصنع سيهدد مداخيل آلاف الأسر وسيكون المهربون المستفيد الأول من ذلك”.
كما طالبت مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد في مذكرة وجهتها إلى رئيس الحكومة بـ”إصلاح قانون استهلاك الكحول”، في إطار “إلغاء التشريعات التي تحد من الحريات الفردية والجماعية”، وقال عمر بلافريج: أجدد المطالبة بإصلاح القانون المتعلق باستهلاك الخمور بما يجعله لا يمس بحرية الأفراد الراشدين، ولا يمكن أن نحرم المواطنين الذين يختارون استهلاك الخمر بشرط أن يكونوا راشدين، إذا كان من واجب الدولة حماية صحة المواطنين، فمن واجبها أيضا حماية حرياتهم.
فاللوبي الاقتصادي هدد بما سيلحق من أضرار اجتماعية -خسارة أزيد من 100 ألف منصب شغل- إن اعتمد هذا القرار؛ علما أنه إن كان صادقا في دعواه لاهتم ولاغتم أيضا للحالة المزرية التي بلغتها شريحة واسعة من المجتمع المغربي بسبب الخمر، فحسب الإحصائيات فما يفوق 2% من المغاربة مدمنين على الخمر.
وبسبب الخمور تعاني العديد من الأسر المغربية من التفكك الأسري والأمراض المستعصية كالسرطان وغيره؛ وبات عدد الجرائم والقضايا المعروضة على المحاكم بسبب الخمر دوما في ارتفاع مستمر، أما حوادث السير فقد سجل أن ما بين 3% و11% من الحوادث سببها السكر المفرط، وهذه النسبة تتصاعد مع نهاية الأسبوع، وخلال رأس السنة الميلادية حيث تستهلك كميات كبيرة من هذا المشروب الخبيث.
فمنذ سنة 1960 إلى 2009 سجل المغرب مليون و589 ألفا و216 حادثة سير أسفرت عن سقوط مليونين و409 ألف و664 ضحية ضمنهم 125 ألفا و184 قتيل، وهو ما يعادل ساكنة مدينة متوسطة، وكلفت حوادث الطرق المغرب أزيد من 11 مليار درهم أي 2,5 في المائة من الناتج الداخلي الخام، فباحتساب النسبة المئوية لما تسببه الخمر من حوادث وجرائم تكلف ميزانية الدولة المليارات من الدراهم سنويا تكون الأرقام مهولة وتكون الخسارة أكثر بكثير من خسارة 100 ألف منصب شغل.
فما يهم هذا اللوبي هو مصالحه؛ النابعة من قناعته الرأسمالية الجشعة التي لا تأبه إلا بالربح السريع وبالعائدات الخيالية، ولا يهتم أتباع هذا الفكر بالوطن أو المواطنين وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية إلى غير ذلك من الشعارات التي أصبحت غطاء لكل مفسد.
فلغة الأرقام تؤكد أن مصلحة الوطن والمواطنين تكمن في منع تداول الخمر بيعا وشراء وإشهارا وصناعة وإيرادا وتصديرا. والتبريرات التي يدلي بها اللوبي العلماني لإباحة معاقرة الخمور نابعة من تبنيه لمرجعية مادية؛ منسلخة عن كل ما له علاقة بالدين وسمو الروح.
فقد صرنا اليوم نشهد أنه من أجل أقلية علمانية يجب “إلغاء التشريعات التي تحد من الحريات الفردية والجماعية”، هكذا وباسم الحرية الفردية يمكن لفرد أو أقلية أن تفرض رؤيتها الفكرية أو السلوكية الشاذة على الأغلبية الساحقة من المجتمع.
فنحن لسنا ضد الحرية؛ بالعكس فالأصل في الإنسان هو الحرية؛ لكننا مع حرية منضبطة؛ حرية لها حدود؛ حرية لا تعارض الشريعة ولا تستقوي فيها لوبيات على الضعفاء والمعوزين باسم المصالح الاجتماعية أو غيرها.
أما الحرية التي يرفع شعارها اليوم بعض المتأثرين بالفكر العلماني والتي يدافعون من خلالها عن الحق في الزنا واللواط وشرب الخمر والإفطار العلني في رمضان، فهذه حرية غريبة عن ديننا ومجتمعنا وهويتنا وتقاليدنا؛ وهي حرية تتجه بالإنسان لا محالة إلى الرجعية والتخلف وإلى المجتمع الغابوي الذي يلتهم فيه القوي الضعيف؛ وهذا ما لا نقبله على الإطلاق.