الحداثوية وخطاب الانتحار (م.ز)

 

انتحر العفيف الأخضر بعد أن كتب لنا “وصفة للانتحار الرحيم”، انتحر وقد ادعى قدرة الإنسان على مواجهة “حقيقة الموت” بالآتي:

– التحليل النفسي:

فمن خلاله، يمكننا -في نظر العفيف- التخلص “من فكرة الخلود” المرهقة والقابعة في أعماق لا شعورنا. اللاوعي مرهق وله تاريخ، وتطوير “التحليل النفسي” هو الكفيل بالسيطرة عليه.

– الاعتناء بصحة البدن:

وذلك بتحسين النظام الغذائي، وممارسة الرياضة، والتطبيب كلما اقتضى الحال ذلك.[1]

بهذه الكيفية، يتقبل الإنسان حقيقة أنه لن يعيش أكثر من 120 سنة، ويعيش هذا العمر كاملا إذا اعتنى بصحته واكتسب “حداثة صحية”.

هكذا نصحنا العفيف الأخضر، ولكنه انهزم أمام الطبيعة في نهاية المطاف. فقد الأمل في العلاج، وفقد الأمل في الإنسان. فقد الأمل في ذلك الإنسان “القادر على قهر الطبيعة والتحكم في اللاوعي”، فانتحر بعد أن ضعفت نفسه وقهرت الطبيعة جسمه الهزيل. إنه لم يجد نفسه قادرا على مشاهدة بدنه يتحلل أمام عينيه، فقرر أن ينام إلى الأبد.

إنه تناقض صارخ بين دعوتين: دعوة إلى الحياة، ودعوة أخرى إلى الموت (الانتحار). إنه نفس التناقض الذي أودى بحياة العفيف الأخضر، لأنه لم يكن يتصور إلا نوعا واحدا من الحياة: “الحياة حيث يموت الإنسان وهو لا يدري، فلا يكون الانتحار فيها إلا المرحلة الأخيرة من الموت”. ليست “الدعوة إلى الانتحار” دعوة بريئة كما يتصورها البعض، وإنما هي صناعة رأسمالية، تنتجها الرأسمالية في زمن توحشها واحتضارها، ويتبناها “خطاب ما بعد الحداثة” ويدافع عنها.

المنتحِر هو النتيجة، هو الضحية التي تدافع عنها “الحداثوية” في البداية والنهاية معا. تدافع الحداثوية عن المنتحِر في البداية، بجعل الانتحار حقا (الحق في الموت)، وكذا بإخضاعِه للفلسفة حتى كاد أن يصبح المنتحِرُ صاحبَ حكمة.

وتدافع عنه في النهاية، بتبرير إماتته لنفسه، ثم بتعميم هذا التبرير على ناشئةٍ وشبيبةٍ لا قدرة لهما على التمييز بين العلوم والإيديولوجيات. وحيث يكون مطلوبا منّا نبذ الانتحار كفعل قاتل للحياة، وحيث نكون مطالبين بتفسيره وتفسير التطبيع معه تاريخيا؛ حيث نكون مطالبين بكل ذلك، تعمل “الحداثوية” على تحريف تلك الوجهة وتزييفها. فتطرح، في جو من التعاطف مع المنتحِر، سؤال: “كيف نلتمس براءة المنتحِر بالرجوع إلى ظروفه النفسية والاجتماعية؟”، بدل أن تطرح السؤال التالي: “كيف ينتج الرأسمال فعل الانتحار وخطابه معا؟”.

“تقليل الأفواه” سياسة رأسمالية، بلا شك. وتلك سياسة تمارَس على عدة جبهات: الفرد، الأسرة، المجتمع، الاقتصاد، القانون، الإعلام… إلخ. وما “انتحار الفرد” إلا جزء من كلّ، تنتحر فيه الأسرة والمجتمع والاقتصاد والقانون والإعلام… إلخ؛ بأنْ يفقد كل ذلك معناه. وما “انتحار الفرد بقتل نفسه” إلا مرحلة أخيرة من مراحل سابقة للانتحار، حيث: انتحار العقل بالارتماء في أحضان العدمية واللاأدرية، وانتحار السلوك بالارتماء في أحضان العبث وللاانتظام، وانتحار القدرة على الصمود في وجه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وانتحار الثقة في الأسرة والدولة والعالم ككلّ، انتحار النفس بإتيان أسباب الجنون من أحقاد متراكمة ومخدرات وخمور ونشاط جنسي منفلت.. إلخ.

1-راجع “إصلاح الإسلام: بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”، للعفيف الأخضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *