أطروحة الجغرافية السلوكية سُبِق طرحها في القرآن الكريم فلم يتم تهميشها وتجاهلها؟

من الانعكاسات العلمية للأوضاع السابق ذكرها؛ ظهور مدارس جغرافية تحاول تفسير الظواهر الجغرافية؛ منها: الجغرافية السلوكية (الإنسانية)؛ ركزت اهتمامها على مسؤولية الإنسان في إعداد المجال الجغرافي؛ أكثر من اهتمامها بالمحددات المـادية والاقتصادية والاجتماعية؛ من أبرز رواد هذا الاتجاه الجغرافي: ليونارد كيلكLeonard Guelke ثم إدوارد رالوه Edward Raloh ويي فو توان Yi Fu Tuan من خلال كتابهما “الجغرافية الإنسانية” سنة 1976.
حاولوا المشاركة في تصور حلول لمشاكل المجال الجغرافي؛ مثل: مشكلة الطاقة وطرق استعمالها؛ مشكلة التصنيع والتدهور البيئي، انتهوا إلى استخلاص أن الإنسان هو المسؤول الأساس في المجال الجغرافي؛ بالنظر إلى دور سلوكاته إما سلبا أو إيجابيا؛ سلبا بالتمادي في تخريب المجال الجغرافي؛ إيجابيا بالعمل على تنمية المجال الجغرافي.
الناظر في التاريخ يشهد بأن أطروحة الاتجاه الجغرافي السلوكي؛ سُبِق طرحها في القرآن منذ قرون، وهُمِّش جهلا أو تجاهلا؛ تناولتها الآيات القرآنية التالية:
جمعت الآية الأولى بين مسؤولية الإنسان عن الإفساد في الأرض وإهلاك الكائنات الحية النباتية والحيوانية؛ فقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} .
وصرحت الآية الثانية بمسؤولية الإنسان عن فساد البر والبحر؛ فقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
واقعية قرآنية تنبه على أن الإنسان لا يشكل نوعية واحدة؛ وإنما هناك من “ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث، وهو محل نماء الزروع والثمار، والنسل وهو نتاج الحيوانات اللذين لا قوام للناس إلا بهما” . كما تشير الآية الأولى إلى حقيقتين هامتين:
– تتمثل الحقيقة الأولى في أن إفساد بعض المفسدين قد ينتج عن استغلالهم مناصب تدبيرية تولوها”.
ففيه (تَوَلَّى) من التولي وهو الانصراف والإعراض، وفيه (تَوَلَّى) من الولاية” .
– تتمثل الحقيقة الثانية في أن “الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح، والفساد أمر طارئ من البشر” .
تستمر هذه الواقعية القرآنية بالإرشاد إلى ضرورة تقعيد القواعد الزجرية؛ بقوله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ” .
ترشد الآية إلى ثلاثة إجراءات للتخفيف من إفساد المفسدين:
– ضرورة تعيين مراقبين يحولون دون وقوع مثل هذا الفساد، لا من خلال تفعيل المساطر العقابية فقط؛ وإنما من خلال تذكير بالقيم الإنسانية “وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ”.
– قد لا يجدي التذكير القولي لصنف بشري حينما يوجه له إنذار شفوي، ينقله إلى ما هو أسوأ “أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ”، لأن “العزة بالإثم هي أنفة الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية… إنما العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى، إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع” .
– استمرارية معاناة الراغبين في الإصلاح، بفعل استمرارية الراغبين في الإفساد؛ لأنهم انتكست ممارساتهم بانتكاس تصوراتهم، “العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى، إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع” . ومما يؤكد استمرارية هذه المعاناة دنيويا؛ أن عقوبتهم أحيلت على إجراءات عقابية أخرى غير دنيوية؛ “فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ” .
في الآية الثانية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
“الفسادُ: نَقِيضُ الصَّلَاحِ” ، “وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَسَادِ: يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، فَيَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ وَاقِعٍ فِي حَيِّزَيِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ” ، “وَقَالَ زَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ: ظَهَرَ الْفَسادُ؛ يَعْنِي انْقِطَاعَ الْمَطَرِ عَنِ الْبَرِّ يُعْقِبُهُ الْقَحْطُ، وَعَنِ الْبَحْرِ تَعْمَى دَوَابُّهُ”
“وما دام الحق سبحانه قال: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس}؛ فلا بُدّ أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلاً؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبتْ أيدي الناس، أمّا حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان، نجد الهواء نقياً كما خلقه الله” .
ويمكن استنباط إشارة أخرى من قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس}؛ تخصص الناس المذكورين في الآية، ما المقصود بهؤلاء الناس؟
ليس من العبث أن يرد هذا التحذير للبشرية في سورة الروم؛ خاصة وأن تسمية سور القرآن أمر توقيفي، إن تسمية (الروم) تطلق في القرآن والسنة على ما يسمى اليوم بالدول الأوربية؛ مع امتداداتها شرقا في آسيا وغربا إلى أمريكا، ضمنها توجد الدول المصنّعة، المسؤولة اليوم عن تلويث البر والبحر، كنتيجة متوقعة من كونها حصلت علوما تجريبية متقدمة، لكنها لا تمثل إلا تحصيلا جزئيا، مما كان ينبغي تحصيله من مختلف العلوم الشرعية والاجتماعية، وهي الإشارة العجيبة الأخرى التي افتتحت بها سورة الروم: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
“وتتساءلون أيقول: «لا يعلمون» ثم يقول «يعلمون» بعدها مباشرة؟ نعم فهم لا يعلمون العلم المفيد، وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} أنهم لا يعلمون بواطن الأمور ولا عواقبها” .
“يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا؛ يَعْنِي أَمْرَ مَعَايِشِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ مَتَى يَزْرَعُونَ وَمَتَى يَحْصُدُونَ، وَكَيْفَ يَغْرِسُونَ وَكَيْفَ يَبْنُونَ” .
“أَيْ أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا ووجوه مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ من أحدهم بدنياه أن يَقْلِب الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *