الحرية: احترام وممارسة حق.. وليست فوضى واستفزازا للمجتمع

كما سبق وقلت غير ما مرة: للحرية مفاهيم متعددة، وحتى إن حصل اتفاق على بعض مناحيها؛ فهناك اختلاف كبير حول دلالات هذا المفهوم.
فإذا اعتبر عبد الله العروي -مثلا- أن الحرية “التي تكونت في أعقاب الثورة الفرنسية.. تستلزم بكيفية أو بأخرى تأليه الإنسان الحر” (مفهوم الحرية:71)، وذلك بعد أن لم يصِر للوحي عليه سلطان، وصار عبدا لأفكار ونظريات فلسفية محضة، فقد عرف طه عبد الرحمن المصطلح ذاته بقوله: “أن تتعبد للخالق باختيارك، وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك” (سؤال العمل:153).
ففرق كبير بين مفهوم يجعل الإنسان إلها ومحورا للكون، يرفع عنه كل الحدود والتكاليف والقيود، ويضبط حريته بعدم المس بحرية الآخرين فقط، ومفهوم يجعله عبدا لله تعالى، مكلفا بالأمر والنهي، ويحدد له بدقة مجالات حريته.
الغريب في نقاش الحرية المتجدد بين الفينة والأخرى أن يتبنى نشطاء المفهوم الدخيل لها، بكل حمولاته الفلسفية والفكرية والسلوكية، ثم ينظرون إليك بعينين جاحظتين مدَّعين أنها لا تخالف الإسلام السمح المعتدل المنفتح على الآخر!!!
يقول الزعيم الراحل علال الفاسي رحمه الله: “إن الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد، فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته، ولا يتفق مع طبائع الوجود كما ركّب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به، وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين. وإيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطوة في حريته” مقاصد الشريعة ومكارمها، ص:248.
ثم لا يكفي إطلاقا رفع شعار الحرية كي يقبل ما يضاف إليها من مطالب، فالحرية انضباط واحترام وممارسة لحق، وليست فوضى وتسيبا واستفزازا للمجتمع، ولا سلاحا يوظف ضد الخصوم الإيديولوجيين، يـَستغلُّ وسائلَ إعلامية ويحشد جمعيات حقوقية للضغط من أجل تطبيع مفهوم متطرف للحرية.
فلم يعد اليوم مجال للتحفظ على القول بأن هناك فعلا مرتزقة يستغلون الحرية؛ قد شوهوا هذا المفهوم؛ فصار لا يضاف عندهم إلى الردة واللواط والسحاق والزنا وشرب الخمر وكشف الجسد وتلويث الفطرة، ورغم ادعاء هؤلاء المرتزقة أنهم لا يصدرون إلا عن قناعاتهم وأنهم بعيدون عن التأثر بمؤثرات خارجية وإيديولوجية غربية؛ فالحقيقة تثبت أنهم أصحاب تبعية عمياء وتقليد جامد لمنظومة مادية وافدة تؤله الإنسان وتؤنسن الإله، وترفض ضمنا كل الأحكام والضوابط الشرعية المؤطرة لمجالات الحياة.
الظاهر اليوم أن أصحاب هذا التوجه -وهم قلة منظمة- لم يقتصر شرهم على أنفسهم فحسب؛ بل تعداهم إلى غيرهم، فأثروا -في ظل ضعف كبير لدور المدافعة والممانعة- على قطاعات حساسة من المجتمع، أهمها قطاع الشباب، فصار بعض الشباب المستلبين والمخدرين يكرر أفكارا دون وعي مضمونها، وبات يشك في دينه وقيمه وأخلاقه، ويطالب بالحق في تغيير عقيدته وبالحرية في معاقرة المخدرات والخمر والزنا واللواط..، وبتغيير كامل للمنظومة المؤطرة لمجتمعه؛ فاحتضنته جمعيات وأحزاب ترتزق بمفهوم منحرف للحرية، استغلت غفلته وشروده وضياعه، ووظفت طاقاته لتحقيق أهداف إيديولوجية وأطماع لائكية مقيتة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *