نزيف العقول في الوطن العربي لا يزال مستمراً! في الوطن العربي..لا احترام للعلم والعلماء ولا تتوافر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع

أظهرت دراسة حديثة أن هجرة العقول العربية تكلف العالم العربي أكثر من مائتي مليار دولار، وأن الدول الغربية هي الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقل عن (450.000) أربعمائة وخمسين ألفاً من هذه العقول، كما أكدت الدراسة أن المجتمعات العربية أصبحت بيئات طاردة للكفاءات العلمية العربية وليست جاذبة لها، وذلك بما تفرضه من قوانين وأنظمة مقيدة لهذه العقول، الأمر الذي أدى إلى استفحال هذه الظاهرة.

وأوضحت الدراسة أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم وأن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا هم من العرب، مضيفة أن هناك نحواً من 75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة بالفعل إلى ثلاث دول تحديداً هي أمريكا وبريطانيا وكندا.
وبينت الدراسة أن مستوى الإنفاق على البحث العلمي والتقني في الوطن العربى يبلغ درجة متدنية مقارنة ببقية دول العالم حيث لا يتجاوز الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمي0.2 % من إجمالي الموازنات العربية.
وتأتي هذه النسبة في حين تبلغ في الكيان الصهيوني 2.6 % بينما في أمريكا 3.6 % والسويد 3.8 % وسويسرا واليابان 2.7 % وفرنسا والدنمارك 2%، كما أكدت الدراسة أن ضعف الاهتمام بالعلم والبحث العلمي يعد أحد العوامل المركزية في الضعف الاستراتيجي العربي في مواجهة الكيان الصهيوني وأحد الأسباب الرئيسة وراء إخفاق مشاريع النهضة العربية.
“مجلة الجزيرة” استطلعت الآراء ووجهات النظرة المتعددة للوقوف على حقيقة هذه القضية ومناقشة أهم سلبياتها وتداعياتها ووضع الحلول والتوصيات التي من شأنها معالجة هذه القضية التي تمس الأمن العربي.
بداية نعرض رأي الدكتور فاروق الباز وهو من كبار العقول العربية التي هاجرت من مصر منذ ستينيات القرن الماضي، الذي يشغل حالياً منصب مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة “بوسطن” بعدما عمل لسنوات طويلة مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” في مشاريع استكشاف القمر والفضاء يقول:
“إن لكل عالم وخبير عربي أسبابه الخاصة التي دفعته إلى الهجرة وهذه تضاف إلى الأسباب العامة المشتركة في الوطن العربي، حيث لا احترام للعلم والعلماء ولا تتوافر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع وبالتالي فمن الطبيعي أن يبحث العالم العربي وطالب المعرفة عن المكان الذي توجد فيه شعلة الحضارة، إذ عندما كان العالم العربي يحمل شعلة الحضارة قبل مئات السنين كان يأتيه المفكرون والخبرات والعقول من كل حدب وصوب، وبما أن شعلة الحضارة انتقلت إلى الغرب فمن الطبيعي أن يهاجر الخبراء والعلماء إلى المراكز التي تحتضن هذه الشعلة.
أما الدكتور إبراهيم قويدر المدير العام لمنظمة العمل العربية يشير إلى تقرير أعدته المنظمة حول هذه القضية جاء فيه أن عدد حملة الشهادات العليا العرب المهاجرين إلى أمريكا وأوربا يبلغ 450 ألف عربي، مما يعنى أن الولايات المتحدة ودول غرب أوربا توفر مليارات الدولارات نتيجة لهجرة العقول والمهارات، إذ لم تتعب هذه الدول لتنشئة وتدريب هذه العقول ولم تنفق عليها، بينما تحمل الوطن العربي تكلفة تنشئتها، وهكذا يذهب إنتاج هذه العقول الجاهزة ليصب مباشرة في إثراء البلدان المتقدمة ودفع مسيرة التقدم والتنمية فيها، بينما يخسر الوطن العربي ما أنفقه من أموال ويخسر فرص النهوض التنموي والاقتصادي التي كان يمكن أن تسهم هذه العقول في إيجادها.
كما أن عدداً من الدول العربية كـ (الكويت) و(العراق) و(ليبيا) وضعت برامج وخطط وافتتحت مراكز للبحث العلمي لتشجيع العقول العربية المهاجرة على العودة، إلا أنها لم تنجح إلا في استقطاب القليل من الخبرات، نظراً لعدم شمولية المعالجة وعدم النجاح في إيجاد بيئة علمية مستقرة، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن بلداً كالعراق هاجر منه 7350 عالماً في مختلف المجالات ما بين عامي 1991 و1998 نتيجة الأوضاع التي كانت سائدة في العراق وظروف الحصار الدولي الغاشم التي طالت الجوانب العلمية.

إمبراطورية العقول المستوردة
الباحث عبد الجواد علي يضرب مثالاً بالقائمين على منطقة “وادي السيليكون” المتخصصة بالصناعات الإلكترونية الذين تقدموا للـ”كونجرس” بطلب توسيع برنامج منح الهجرة للعَمالة الماهرة ليستقروا في الولايات المتحدة.
وهذا الواقع يجعل الكثيرين يطلقون على الولايات المتحدة الأمريكية (إمبراطورية العقول المستوردة) التي لم يقتصر استيرادها من دول العالم الثالث، بل إن عدداً من الدول الأوربية وكندا واستراليا يعانون أيضاً من هجرة العقول باتجاه الشركات والجامعات الأمريكية ومعاهدها ومراكز الأبحاث المختلفة.

القرن المالي
ويستطرد عبد الجواد: الأخطر من كل هذا النتيجة التي أعلنها “ديفين برينر” الأستاذ في دراسات الأعمال في جامعة “ماكجيل” الكندية التي ذكرها في كتابه (القرن المالي) إذ يقول:
“في ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والأموال إلى حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين ومستفيدين، ففي كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو 1.8 مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات في العالم الإسلامي إلى الغرب.
وإذا افترضنا أن تعليم أحد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط عشرة آلاف دولار فإن ذلك يعنى تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوربا كل عام!”.
يختتم عبد الجواد حديثه بقوله: وإذا تراكم هذا المبلغ نظرياً على مدى عدة سنوات فسيصبح مفهوماً أكثر لماذا تزداد الأقطارُ الغنيةُ غنىً والفقيرة ُفقراً.

فقر الإمكانيات
وعن أثر العوامل الاقتصادية لهجرة الكفاءات أكد الدكتور سعد حافظ أستاذ الاقتصاد بـ”معهد التخطيط القومي” أن وراء الهجرات عوامل سواء أكانت داخلية أو خارجية، أهمها: الفقر حيث لا يقتصر على مفهوم واحد ولكنه يمتد ليشمل فقر الإمكانات والقدرات الذي يعكس نقص الخدمات الأساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معاً، ويرتبط الفقر بهذا المعنى بنقص التشغيل والبطالة والتهميش وضعف أو انعدام فرص الحراك الاجتماعي.

آثار سلبية
تفرز هجرة العقول العربية إلى البلدان الغربية عدة آثار سلبية على واقع التنمية في الوطن العربي، وفي هذا السياق يقول الدكتور السيد عبد الستار المليجي الأمين العام لنقابة العلميين: “لا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب، ولكنها تمتد أيضاً إلى التعليم في الوطن العربي وإمكانات توظيف خريجيه في بناء وتطوير قاعدة تقنية عربية، ومن أهم المنعكسات السلبية لنزيف العقول:
أولاً: ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول التي تصب في شرايين الغرب بينما تحتاج التنمية العربية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي.
ثانياً: تبديد الموارد الإنسانية والمالية العربية التي أنفقت في تعليم وتدريب الكفاءات التي تحصل عليها البلدان الغربية دون مقابل.
ثالثاً: ضعف وتدهور الإنتاج العلمي والبحثي في البلدان العربية بالمقارنة مع الإنتاج العلمي للعرب المهاجرين في الغرب.
“البلدان العربية تتحمل بسبب هذه الهجرة خسارة مزدوجة لضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد الكفاءات العربية المهاجرة، ومواجهة نقص الكفاءات وسوء استغلالها والإفادة منها عن طريق استيراد العقول الغربية بتكلفة كبيرة”.

نحو إستراتيجية عربية
وللحد من هذه الظاهرة التي تكبد العرب خسائر اقتصادية جمة يطالب د. سيد عبد الستار المليجي بوضع استراتيجية عربية متكاملة، كما طالب بتفعيل الدعوة التي طالب بها الشيخ حميد بن المعلا وزير التخطيط بدولة الإمارات حيث طالب الأخير أن تتبنى الجامعة العربية الدعوة إلى إنشاء صندوق باسم: “صندوق دعم الكفاءات العربية” يؤطر لإنشاء كيان من خلال الجامعة يتم فيه تسجيل كل الكفاءات العربية النادرة من العلماء والتقنين في الخارج، وربطهم من خلال شبكة اتصال بالجامعة العربية بهدف دعم جهودهم وتشجيع ربطهم بالوطن الأم بما يكفل في نهاية المطاف عودة هذه العقول المهاجرة لخدمة المجتمع العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *