المفهوم السائد للحرية في جل المنابر الإعلامية والصالونات الثقافية أن الإنسان يجب أن يمتع بحرية مطلقة، ولا يقيد بوصايا أو أوامر سواء من رب أو سلطة معنوية أو أخلاقية.
وهذا المفهوم؛ الذي يصدر عن مرجعية علمانية محضة؛ مفهوم خاطئ ومموِّه لمعنى الحرية، لأن الحريات لا تقاس كمّا، وإلا لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه عنه.
فالحريات تقاس بمدى نفعها وضررها، ونحن نرى الغرب اليوم كيف يعمل على تقليص الحريات الفردية، ويسعى جاهدا إلى إصدار قوانين تمنع الحجاب والنقاب، وتصادر بناء المآذن، وتبيح له التنصت على المكالمات الهاتفية الخاصة، وتركيز أجهزة السكانير في المطارات التي تظهر أدق خصوصيات الإنسان وأجهزته التناسلية، وكل ذلك لحماية أمنه الخاص، فالحريات الفردية مردها إلى ما يعود على الفرد والمجتمع بالنفع وما يدفع عنهما الضر أيضا، ولذا وصفت النواهي الشرعية حدودا فإذا تجاوزها الإنسان وقع فيما يضره.
لازلت أتذكر ما نقله أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه المفيد “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”؛ وهو يجسد واقعنا اليوم بتذكيرنا بما نقلته كتب التاريخ والحضارات القديمة من أن شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها؛ والولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى و”الفنون الجميلة”!؛ ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد؛ أثـَّرت تأثيراً سيئاً في أخلاق المجتمعات الغابرة، فانتشرت الفوضى في مجال الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام، وأصبح -في اليونان مثلا -شعار الرجل الجمهوري -كناية عن العلماني أو الحداثي اليوم!- الجري وراء الشهوات العاجلة، وانتهاب المسرات، والتهام الحياة التهام الجائع النهم.
ويصف سقراط -كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه المملكة- الرجل الجمهوري- فكأنما يصف ناقدا من نقاد هذا القرن في إحدى العواصم الغربية أو العربية.
فإذا قيل له: إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام؛ وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم؛ والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه.اهـ
إنها تجارب التاريخ والأمم تعاد وتكرَّر، والسعيد من وعظ بغيره واتخذ العبرة بمن مضى.