التبرج والحجاب في المغرب ثنائية تختزل عقودا من الصراع بين هوية المغاربة الإسلامية الأصيلة ومنظومة فكرية غربية استعمارية وافدة على دبابات وبوارج المحتل الفرنسي العلماني.
صراع نرى ضحاياه نساء مغربيات مسلمات، ينكرن الحجاب ويعادينه، ويرفضن أن يتحدث معهن أحد عن نمط لباسهن أو أن ينتقده مهما بلغ من التهتك وقلة الحياء؛ نساء صرعتهن الموضة فعرتهن شيئا فشيئا حتى صرن يمشين عاريات إلا عن رقعة ثوب لا تفي بتغطية جسم طفلة في سن الثانية أو الثالثة؛ فكيف تستر جسم من بلغت العشرين أو الثلاثين؟
صراع للأسف خرج من دائرة “اتباع الشهوات”: شهوة اللباس، وشهوة الرياء، وشهوة الإغراء، إلى دائرة “إتباع الشبهات” فصار اللباس حرية شخصية لا علاقة له بدين أو بقرآن أو بسنة أو حتى بالتقاليد، فللمرأة أن تلبس كيف تشاء وليس لأحد أن يحدد نمط ما تلبس.
وللأسباب نفسها التي جعلت المغرب لم يستأنف بعد استقلاله العمل بالشريعة الإسلامية على مستوى الحكم والقضاء والاقتصاد، تم التواطؤ على عدم تجريم العري والتبرج، واكتفي بتجريم الإخلال بالآداب والأخلاق العامة، الذي أصبح لا معنى له في زمن الاستعلاء العلماني حيث تم استبدال “حماية الحرية الفردية” بمفهومها العلماني بتحقيق الاستسلام لله والانقياد لشرعه والامتثال لأوامره.
ففي زمن الامتثال نسمع للإمام البخاري رحمه اللَّه في “صحيحه” يخبرنا بقول حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنوه بالنساء المؤمنات اللائي يُحكّمن الله ورسوله في أمورهن، ولا يعبأن بنعيق الغربان، فلكل زمن غربانه، وغربان هذا الزمان بنو علمان، قالت أمُّنا عائشة رضي اللَّه عنها: “يرحم اللَّه نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل اللَّه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شققن مروطهن فاختمرن بها”.
وقالت رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، ولكن واللَّه ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب اللَّه، ولا إيمانًا بالتنزيل، ولقد أنزلت سورة “النور”: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهنّ امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان” فتح الباري.
إذًا فالحجاب، واجب كلف الله به النساء لحِكم بليغة كثيرة لا ينكرها إلا مَن قطع مع هويته ودينه، وانتحل أفكارا أثبت الواقع أنها لم تكرم المرأة بل أخرجتها من بيتها وعرتها عن حجابها وقذفت بها في سوق النخاسة بين أرجل الفساق والسفهاء الذين ما شرع الحجاب إلى ليحد من خطرهم على المرأة والأسرة والمجتمع.
والمرأة المغربية عندما كان لباسها الحايك لم تكن تمتثل مجرد عرف أو تقليد، بل كانت تمتثل أمر الله في لباس المرأة المسلمة، مثلها مثل النساء الأنصاريات والمهاجرات.
لكن ما الذي وقع حتى أصبحت النساء في المغرب متبرجات شغوفات بالعري والسفور يبدين من أجسادهن أضعاف ما يسترن؟
للإجابة نستدعي نصا تاريخيا لأحد رموز الاستعمار الفرنسي ورجالاته -الاستعمار الذي يتحمل الشيء الكثير فيما نعيشه اليوم من اضطرابات فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية وسلوكية- وهو “جلبير كرانفال” ثالث مقيم عام قبل الأخير والذي كلفه الرئيس الفرنسي الأسبق “إدكارفور” بتدبير أهم و أخطر مراحل الاستعمار الفرنسي بالمغرب.
يقول “كرانفال” في مذكراته التي عنونها بـ”أسرار مهمتي في المغرب”:
“تلقيت زيارة سارة جاءت لتخفف عني قدرا من همومي، ولتؤكد لي في نفس الوقت صحة الملاحظات التي أوردتها أعلاه، وذلك أن الجنرال “لوبلان” اقترح علي استقبال شابة مغربية لطيفة، ويتعلق الأمر بالسيدة الطهاوي جليل التازي، التي تترأس بالفعل مختلف الأنشطة النسائية.. فقبلتُ ذلك انطلاقا من أني وإن كنت لا أعول على ما يمكن أن تفيدني به هذه السيدة حول آراء النساء فإن تأثيرها في هذه الظرفية الخاصة يستحق أن يلقى بعضا من اهتمامنا..
إنها سيدة باريسية الطبع، ترتدي فستانا رائعا أبيض اللون مما دفعني إلى المبادرة بالتعبير لها عن ثنائي لأناقتها، فما كان من سلوكي النزق هذا إلا أن سنح بربط خيوط الحديث معها، مما هيأ لها الفرصة للانطلاق منذ البداية في مرافعة عن حق الملك المخلوع . لقد ظلت حياتها دوما كما جاء على لسانها على الطريقة الأوروبية، غير أن هذه الخاصية قد كلفتها التعرض لعدد لا يحصى من أوجه السخرية و التهكم، مما أصابها بالكدر والهم طيلة شبابها، بحيث إن ذلك لم يتوقف إلا بعد قيام السلطان الأسبق هو نفسه بالسماح لبناته، خصوصا الأميرة عائشة بأن يرتدين ملابسهن على الطريقة الغربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا الأسلوب الثوري في اللباس مقبولا عند الناس”.
السخرية والتهكم كانت تحس بهما وتعيشهما المرأة المتبرجة في المغرب منذ أقل من سبعين سنة لأنها كانت نشازا، حيث خالفت قومها ودينها وقلدت -كما قال كرانفال- الطريقة البارسية أي ما كان سائدا ولا يزال في بلد علماني ثار على دينه وتقاليده.
واليوم في زمن الإقصاء والتهميش لشريعة الإسلام، تعيش المحتجبة السخرية والتهكم ذاتيهما اللذين كانت تعيشهما المتبرجة، بل انضاف إليهما الخوف والترهيب العلمانيان في ظل سبات عميق من حراس الدين والعفة.
واستنادا إلى النص التاريخي الآنف الذكر يمكن أن نقرر عدة ملاحظات أهمها:
1) أن بداية التبرج كانت في المدة بين أواسط الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي أي أقل من 70 سنة.
2) أن الأصل في الزي بالنسبة للنساء بالمغرب هو الحجاب.
3) أن المتبرجة ترتدي ملابس على الطريقة الغربية المنافية للطريقة الإسلامية.
4) أن التبرج كان مرفوضا رفضا قاطعا في المجتمع المغربي حتى سمح الملك الراحل محمد الخامس لبناته بأن “يرتدين ملابسهن على الطريقة الغربية”.
5) أن النساء الأول اللائي تبرجن كان لهن احتكاك مباشر بالمحتل الغربي وكن يعملن تحت عينه، ويخضعن لمراقبته.
6) أن التبرج هو نمط ثوري على اللباس الأصلي (الحجاب).
7) أن العمل النسائي بالمغرب كانت بداياته موجهة من طرف المستعمر العلماني.
واستنادا أيضا إلى الملاحظات السبع الآنفة الذكر، يمكن أن نخلص إلى نتيجتين هامتين:
أ- أن العري في المغرب ظاهرة منافية مخالفة لدين المغاربة وهويتهم.
ب- أن الحرب على الحجاب والتضييق على المحتجبات هو نتيجة للصراع بين المنظومة الفكرية العلمانية وبين المرجعية الإسلامية والتاريخية المغربية.
ومن هذه المنطلقات وعلى أساسها يجب أن نفهم مواقف الكثير من المعادين للحجاب والمحاربين له، وذلك حتى تنكشف لنا حقيقة تترِّسهم بالحرية الشخصية، واستتارهم بكلام من قبيل: الدين مسألة شخصية، والإيمان في القلب وليس في اللباس، واللباس عادة اجتماعية قابلة للتطور ولا علاقة له بالدين، والحجاب جاء مع الثورة الخمينية، والنقاب مع الجهاد الأفغاني، والدافع إلى ارتداء الحجاب إما الفقر وإما الرغبة في الزواج؛ إلى غير ذلك من سفاسف الأفكار التي لا يمكن أن ترقى إلى أن تغطي الحقائق التاريخية والأدلة الشرعية والعقلية على وجوب الحجاب الشرعي.
أوَ ليس من المضحك أن تستمر مئات الملايين من النساء المؤمنات بالله واليوم الآخر في ارتداء الحجاب خمسة عشر قرنا على مر تاريخ دولة الإسلام ولا يكون هناك خلاف بين علماء المسلمين إلا حول تغطية الوجه والكفين، لنسمع في زمن ما بعد الاستعمار وسقوط الخلافة الإسلامية وشيوع الحريات المنكوسة مَن يحارب الحجاب ويدعو إلى العري الكامل ويدافع عن الألبسة المتهتكة، فصدق الله العظيم إذ يقول: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}النساء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل