مراتب تغيير المنكر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”
بيَّن هذا الحديث مراتب تغيير المنكر:
الأولى: التغيير باليد.
والثانية: التغيير باللسان.
والثالثة: التغيير بالقلب.
قال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/234): تعين التغيير باليد إن كان ذلك المنكر مما يحتاج في تغييره إليها، مثل: كسر أواني الخمر، وآلات اللهو، كالمزامير والأوتار والكبر، وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك، فإن لم يقدر بنفسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثوران فتنة، وإشهار سلاح، تعين رفع ذلك، فإن لم يقدر بنفسه على ذلك، غير بالقول المرتجى نفعه، من لين أو إغلاظ، حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة، إلى ما لا يبلغ بالسيف والرياسة.
فإن خاف من القول القتل أو الأذى، غير بقلبه، ومعناه: أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم على أن لو قدر على التغيير لغيره.
وهذه آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير المنكر، وهي المعبر عنها في الحديث بأنها أضعف الإيمان، أي: خصال الإيمان، ولم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى في تغيير المنكر، ولذلك قال في الرواية الأخرى: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، أي: لم يبق وراء هذه الرتبة رتبة أخرى، والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام على ما تقدم.
وذكر المراتب نفسها ابن جزي الغرناطي في القوانين الفقهية (136) وشهاب الدين القرافي في الذخيرة (13/303) والنفراوي في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/486).
قال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن (1/383-384): فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه، وذلك إنما هو إلى السلطان، لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة، وآيلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن يقوى المنكر، مثل أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه عنه ولا يستطيع ألا يدفعه، ويتحقق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال، وليخرج السلاح.
وذكر ابن المناصف في تنبيه الحكام (320) وتبعه العقباني في تحفة الناظر (55- فما بعد) لتغيير المنكر خمسة مراتب، بعضها أشد من بعض، بدءا بمجرد التنبيه إلى التغيير باليد:
النوع الأول: مجرد التنبيه والتذكير، وذلك فيمن يعلم أنه جَهِل فسادَ ما واقعَ، لصدور ذلك على غرة وجهالة، كما يقع من العاصي الجاهل بدقائق الفساد في البيوع ومسائل الربا التي يعلم خفاؤها عنه، وكذلك ما يصدر منه من عدم القيام بأركان الصلوات وشروط العبادات.
فهذا النوع من الرفق والتلطف في التعليم بحسب فهم صاحب النازلة وما يليق به أوقعُ في النفوس وأقربُ للإجابة، من كثير من العنف والشدة.
النوع الثاني: الوعظ بما يهز النفوس ويستميلها لتصفية الباطن والبعد عن الإثم ومواقع الجرائم: بالتخويف من عقاب الله، والتحذير من أليم عذابه، واستحقاق وعيده، وذلك في سائر من علم أن وقوعه في المناكر على علم منه بها كمدمن شرب الخمر، والمواظب على الغيبة والنميمة، وأمثال ذلك من أنواع المعاصي التي لا يجوز لكل مسلم مكلف أن يجهل تحريمها.
النوع الثالث: الزجر والتأنيب، والإغلاظ بالقول، والتقريع باللسان، والشدة في التهديد، وهجين الخطاب في الإنكار.
وذلك فيمن لم ينفع فيه وعظٌ، ولم ينجع في شأنه تحذيرٌ برفق، ولا تذكير بلطف، فردْعُه إنما يكون بالتخويف الصارف له، والمرهبِ القامعِ لأمثاله.
النوع الرابع: التغيير بملاقاة اليد لإزالة ذلك المنكر، وإذهاب وجوده، وذلك فيمن كان حاملا للخمر، أو لابس ثوب حرير، أو خاتم ذهب، أو ماسكا لمال مغصوب، وعينُه قائمة بيده، وربه متظلم من بقاء ذلك بيده، طالب رفع المنكر في بقائه تحت حوزه وتصرفه.
فأمثال هذا النوع لابد فيه مع الزجر والإغلاظ، من المباشرة للإزالة باليد أو ما يقوم مقام اليد، كأمر الأعوان الممتثلين أمر المغير في إزالتهم له بوازع الطاعة وإعمال المسارعة، فيريقون الخمر، وينزعون ثوب الحرير وخاتم الذهب، ويختطفون المغصوب من يد الغاصب ويردونه لمالكه، وما شاكل ذلك من أسباب السعي في زوال ذلك المنكر ومحو أثره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده”.
النوع الخامس: إيقاع العقوبة بالنكال والضرب بالأيدي والجلد بالسوط وذلك فيمن تجاهر بالمنكر، وتلبس بإظهاره، وإبداء صفحة خده في استلذاذه وعدم إفادة العذل واللوم على مواقعته، ولم يقدر على دفعه إلا بذلك، فإن كابر وعاند ودعت الضرورة إلى مقاتلته بالسلاح ومكافحته بالتناصر والتعاون، وجب ذلك على كل من حضر وباشر، إذا لم يقلع عن ذلك المنكر إلا بمثل ذلك.
ثم ذكر أن الأولى أن يرفع هذا النوع إلى الإمام أو إلى أحد من الحكام القائمين به عن إذنه. لأن ذلك أدعى إلى النجح، وأقربُ لتسهيل المأخذ ونيل المقصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *