عرف الأستاذ “محمد بن علي باخريبه” صاحب كتاب الصهيونية كلمة صهيون بقوله: هي كما فسرها اليهود بمعان ثلاثة:
– مدينة الملك الأعظم.
– اسم حصة سماه نبي الله داود.
– اسم جبل يقع في شرق القدس.
استقر تعريف الصهيونية في المصطلح السياسي على أنها: حركة يهودية دينية سياسية تهدف إلى إعادة مجد إسرائيل بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وهي تمزج بين السياسة والدين وتتخذ الدين ركيزة تقوم عليها الدعوة السياسية. (أحمد عطية: القاموس السياسي).
لقد تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل “هيرش كاليشر” (1795-1874م) في كتابه “البحث عن صهيون”، و”موشي هس” (1812-1875م) في كتابه روما والقدس، و”ليوبينسكر” (1821-1891م) في كتابه التحرير الذاتي.
ثم بدأت الصهيونية تتغلغل وتنتشر أكثر بين اليهود منذ عام 1881م عندما اضطرت أعداد ضخمة منهم إلى النزوح عن روسيا على إثر المجازر التي تعرضوا لها بعد اغتيال القيصر الروسي “ألكسندر الثاني”، وإلى قيام جمعيات “أحباء صهيون” التي طرحت مسألة استيطان اليهود لفلسطين وغزوها عن طريق الهجرة كاحتمال عملي، كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضاً عن “اليديشية”، وقد تمكنت حركة “البيلو” من إيصال عشرين مستعمِراً يهودياً عام 1882م كانوا طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين، وأوجدوا عدة مستعمرات صهيونية شكلت المراكز الأساسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة. (تاريخ الحركة الصهيونية الحديثة، (1897- 1918)).
إلا أن أحد أعضاء جمعيات أحباء صهيون البارزين وهو “آحاد هاعام” ذهب إلى إعادة النظر في فكرة إقامة المستعمرات، وأخذ يركز على ضرورة الحفاظ على القيم الروحية اليهودية، وأكد بأن طريق وقف الانحلال الروحي اليهودي في نظره هو إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين، يعيد لليهود حيويتهم ووحدتهم ويؤدي في النتيجة إلى تحقيق الحلم القومي اليهودي، وسُميت صهيونيته بالصهيونية الروحية. (عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/207).
وبادر أنصار “آحاد هاعام” لأجل هذا الغرض إلى تشكيل جمعية بني موسى، وتتلمذ على يده عدد من المثقفين اليهود. (الموسوعة السياسية).
وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر: اعتنق صحفي يهودي من فيينا وهو “تيودور هرتزل” الفكرة الصهيونية على أثر موجة من العداء لليهود في أوروبا، وقام بتأليف كتاب حول المسألة اليهودية شرح فيه تصوره ووجهة نظره لحل المسألة اليهودية بعنوان: “الدولة اليهودية في عام 1895م”، (دراسة الصهيونية السياسية).
وبعد عامين من هذا التاريخ تمكن “هرتزل” من عقد المؤتمر الصهيوني الأول بحضور 204 من المندوبين اليهود يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة من العالم، وتمخض هذا المؤتمر عن تحديد أهداف الحركة الصهيونية فيما عرف ببرنامج “بال”، وإنشاء الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج، وهي: المنظمة الصهيونية العالمية، وقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية على أنه خلق وطن لليهود في فلسطين بواسطة الهجرة وربط يهود العالم بهذا البرنامج (الموسوعة السياسية).
وتعتبر صهيونية “هرتزل” صهيونية سياسية لأنها حولت المشكلة اليهودية إلى مشكلة سياسية وأوجدت حركة منظمة محددة الأهداف والوسائل (عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/198-199).
أما الصهيونية الدينية فقد اتخذت شكلاً تنظيمياً عام 1902م بقيام حركة “مزراحي” تحت شعار أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة توراة إسرائيل، وتحت شعار آخر التوراة والعمل، ويرى هؤلاء أن اليهود أمة متميزة عن غيرها، لأن الله في زعمهم هو الذي أسسها بنفسه، وأن وحدة الوجود اليهودي تتمثل بالتحام اليهود والتوراة وفلسطين، ذلك الالتحام الذي يفجر عبقرية اليهود، ولحركة “مزراحي” هذه فروع في كل العالم، ويتبعها الحزب الديني القومي والعديد من مزارع “الكيبوتز” و”الموشاف” والكثير من المدارس التلمودية. (الموسوعة السياسية).
وجدير بالإشارة إلى أن العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية والتاريخية تشكل الخلفية النظرية وقاعدة الارتكاز اليهودي في “إسرائيل”، بدءاً من الناحية التشريعية، كقانون العودة 1950م، الذي يقضي بحق كل يهودي في الجنسية “الإسرائيلية”، مروراً بالقول: إن فلسطين هي موطن يهود العالم باعتبار الأقدمية والاستمرارية التاريخية لمدة ألفي سنة، وإن يهود اليوم يشكلون على هذا النحو قومية تمتد إلى آلاف السنين من التاريخ.
يقول الزعيم الصهيوني “ديفيد بن جوريون”: إن إسرائيل قد تكون أحدث دول العالم، ولكن الشعب اليهودي له وجود عمره أربعة آلاف عام متتالية (عبد الرحمن حبنكة الميداني: مكايد يهودية عبر التاريخ).
ومن هنا: فإن توسع الكيان الصهيوني يجد تبريره الجاهز في مفهوم إسرائيل الكبرى أو إسرائيل التاريخية في شعار من الفرات إلى النيل.
ومما لا شك فيه أن التيارات والمدارس الصهيونية المختلفة وإن تنوعت أساليبها واختلفت وسائلها فهي تتفق في الجوهر، وتتبنى كلها نسقاً أيديولوجياً واحداً، وتتحد حول الهدف المرسوم، ألا وهو: حل مشكلة اليهود عن طريق استيطان فلسطين بطريقة جماعية وإقامة دولة يهودية صهيونية.
إن علاقة الصهيونية باليهودية علاقة عضوية حيث لا تنفك إحداهما عن الأخرى، وبالتالي يمكن القول: إن الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة، وما الماركسية والليبرالية إلا قناعان يستعملُهما اليهود لتمرير مخططاتهم وخدمة أهداف الصهيونية القريبة والبعيدة.
والدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعباً له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعباً شريراً، خائناً، ملتوياً، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصرياً، مغروراً، جشعاً، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى. (د. عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق، 1/204. )
وهكذا: فالناظر في عقلية ونفسية القوم لا يجد على الإطلاق اختلافاً في الصفات والخصائص بين اليهودية والصهيونية بوصفهما توأمين يتفقان في الأسس والمبادئ والأهداف، وهي:
– المحافظة على تميز العنصر اليهودي.
– العمل من أجل العودة إلى أرض الميعاد.
– السيطرة على جميع شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الجنس اليهودي.
وعلى الرغم من الدعاية الواسعة التي نشرتها بعض الحركات الصهيونية في أوساط الرأي العام العالمي حول اشتراكيتها وماركسيتها وعلمانيتها، فالحقيقة تبقى أن الشيوعية بصفة عامة والمؤسسات الصهيونية العمالية أو الاشتراكية بصفة خاصة هي في جوهرها العملي أدوات ومؤسسات لخدمة مصالح “إسرائيل” قبل قيام الدولة وبعدها.
وقد تنبه كثير من اليهود لهذا الجانب في الأيديولوجية الصهيونية، فالحاخام “لانجلو” يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة، وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق (الأمة) (أرثر هرتزبرج: الفكرة الصهيونية: تحليل تاريخي ومختارات، ترجمة لطفي العابد وموسى عنتر).
ويقول “موشي ليلينبلوم”: إن الأمة كلها هي أعزّ علينا من كل التقسيمات المتصلة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين، فعندما يتعلق الأمر بالأمة يجب أن تختفي الطائفية.. فلا مؤمنون ولا كفار، بل الجميع أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. لأننا كلنا مقدَّسون، كل واحد منا، سواء أكنَّا غير مؤمنين أو أرثوذكسيين (المرجع نفسه).
ولذلك فلا الماركسيون اليهود يصرون على ماركسيتهم، فحزب “المابام اليسارى” مثلاً أيّد التدخل الأمريكي في “فيتنام”، ولم يعارض الاستثمارات الأجنبية والخاصة في “إسرائيل”، ولا الليبراليون الرأسماليون يصرون على ليبراليتهم ورأسماليتهم، فحزب “الماباي” يدخل في تحالف مع الأحزاب الدينية مطلقاً يَدَها في كثير من جوانب الحياة في “إسرائيل” العلمانية! كما أن الأحزاب اليمينية لا ترفض التحالف مع الأحزاب اليسارية، وتقبل بعض السمات الاشتراكية أو الجماعية التي تتسم بها الحياة في “إسرائيل”، والجميع في حالة الحرب يقفون صفاً واحداً إذا كان الأمر يتعلق بإبادة الفلسطينيين (المرجع نفسه)، أو شن حرب ضد الإسلام والمسلمين.
إن الخلاف بين العلمانيين والمتدينين الصهاينة هو خلاف أسلوب لا مضمون، إذ لا يختلفون في الأسس والمبادئ، كما يتفقون حول الغايات والأهداف لخدمة إسرائيل وأمنها ومستقبلها.
وخلاصة القول: إن الصهيونية واليهودية إنما تعبران عن فلسفة واحدة متكاملة، وهي تتخطى الخلافات السطحية بين اليهود لتصل إلى البنية الفكرية الكامنة وإلى النسق الأيديولوجي الواحد بغض النظر عن التنوع والاختلافات، وإن العلاقة بينهما مركبة إلى حد بعيد، إذ إن الأفكار الأساسية للأيديولوجية الصهيونية مستقاة من العقيدة اليهودية، وليس أدل على البعد اليهودي لدولة الصهاينة من اسم دولتهم، وشعار حكومتهم، وشكل علمهم ذي اللونين الأبيض والأزرق لون الطاليت (شال الصلاة اليهودي) تتوسطه نجمة داود، ويتحدث نشيده القومي عن عودة إلى وطنه، تذكّر المرء بالعودة إلى العصر “الماشيحاني”، واسم الدولة “إسرائيل”، واسم البرلمان الذي يجتمع فيه ممثلو الشعب اليهودي “الكنيست” أي: المعبد، والدستور غير المدون عندهم الذي يعتبر التوراة هي الدستور الأعلى في “إسرائيل”، إضافة إلى عشرات الرموز والشعارات الدينية التي استقاها الإسرائيليون الصهاينة من تراثهم الديني في ميادين الحرب والسلام ومراحلها وأدواتها وعملياتها وآلياتها.
فإسرائيل بالمعنى الديني هي نفسها إسرائيل الشعب بالمعنى العرقي، وهي نفسها إسرائيل الدولة بالمعنى الصهيوني، وكلها تجليات للجوهر نفسه. (انظر ريجينا الشريف في كتابها: الصهيونية غير اليهودية، عدد:96).
إن ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود وهي الأرض واللغة والتاريخ والعادات هي القاسم المشترك بين اليهودية والصهيونية، بصرف النظر عن انتماء اليهود الحزبي أو الطائفي أو الأيديولوجي، ولذلك: فإن محاولة العلمانيين والليبراليين العرب تجريد اليهود العلمانيين من خلفيتهم الصهيونية إنما هي محاولة لتزييف الحقيقة، والغرض منها إبعاد كل شبهة عن المذهب العلماني الليبرالي.