أيام فاس الدامية الثورة الكبرى عقب عقد عهد الحماية إعداد إبراهيم بيدون

تعتبر ثورة مدينة فاس عقب عقد الحماية الحدث الأكبر، وردة الفعل الكبرى، وسخط الرعية المغربية على عقد الحماية الذي ألزم به السلطان عبد الحفيظ، وهو ما أثار علماء وشرفاء والعسكر وعامة أهل فاس، ليقوموا بثورة ضد المحتل، سميت في التاريخ بأيام فاس الدامية، وسمّى على إثرها بعض الفرنسيين مدينة فاس بالمدينة المجرمة لعدد القتلى الفرنسيين الذي قتلوا في هذه الثورة، وحصلت بعد نصف شهر من توقيع عقد الحماية (30 مارس 1912) يوم 17-18-19 أبريل 1912م.
جاء في كتاب المؤرخ “مارتان” “تاريخ المغرب طيلة أربعة قرون”: “وفي فاس العاصمة نفسها نرى الهيجان يتزايد منذ اليوم الثامن عشر من مارس..، فلقد قتل ضابط فرنسي بطلقة نارية من قبل جندي مغربي أثناء التمرين..، على أن موقف أولئك التقليديين من العلماء والشرفاء لم يكن يبعث على التفاؤل..، فلقد كان هؤلاء يعملون على نشر دعيات مغرضة بين رجال الجيش يقصد منها إثارة الناس أجمعين ضد التدخل الأجنبي..، وأن هؤلاء لم ينالوا في دعاياتهم من المولى عبد الحفيظ، بل كانوا على العكس من ذلك يشيعون بين الناس أن السلطان مخنوق الأنفاس وأنه سجين قصره..، وأن الفرنسيين سيحملونه معهم إلى الرباط ومن ثمة سيرحلونه إلى فرنسا بعد أن يحملوه بالقوة على بيع البلاد للفرنسيين!
ولم يحن اليوم السابع عشر من أبريل حتى بدأت المأساة..، فكانت الأيام الحمراء التي ذهب ضحيتها عشرات من الضباط والمواطنين الفرنسيين.. أياما ويا ما أسوأها من أيام..”.
ولإلقاء الضوء على تلك المذبحة التي قتل فيها 80 فرنسيا، سننقل بعض الأحداث والوقائع والشهادات من كتاب “أيام فاس الدامية” (تعريب المؤرخ عبد الهادي التازي) للمراسل الحربي لجريدة لوماتان “هيبير جاك” الذي قضى سبع سنوات في المغرب يجوبه من أقصاه إلى أدناه رفقة الجنرالات ومتتبعا العمليات العسكرية..
“قال رئيس الحكومة الفرنسية بتاريخ: فاتح يوليو 1912 أي بعد مرور شهرين ونصف على المذبحة: “إن المعلومات التي أتوفر عليها لا تمكنني لا بصفة قطعية بل ولا بصفة احتمالية كذلك أن ألقي المسؤولية على شخص أو أن أجرم أحدا..”.
“لقد توالت الكوارث في المغرب فمنذ 1901 ونحن نسجل الواحدة تلو الأخرى، بل وهي أكثر من أن تحصى، وفي كل هذه الحالات ليس هناك أحد أبدا يمكن أن توجه إليه المسؤولية ولو إلى الديبلوماسية”.
“..نظرا لما راج في أثناء المناقشة بالبرلمان فلقد تعرضنا نحن الصحفيين سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة لطعنات ولمزات.. الذين أشعلوا نار الفتنة في فاس!” (فالحكومة الفرنسية تلقي بمسؤولية تسرب خبر توقيع عقد الحماية للصحفيين، بأنه كان سبب اشتعال أيام فاس الدامية).
تعرضت فاس سنة 1911 لهجوم من البدو المحيطين بها مستهدفين الجيش الفرنسي، ولم يتدخل يومها الفاسيون للرد على هذا العدوان، ولما علموا بتوقيع عقد الحماية وهو ما يعتبر احتقارا لكبريائهم، تحركوا وانتفضوا وأوقعوا القتل في الفرنسيين، وكتعليق على ذلك قال “هيبير جاك”: “إن الفاسيين خونة أنذال جبناء، ولقد أعطوا الدليل على خيانتهم ونذالتهم يوم الأربعاء 17 أبريل 1912.. تلك المائة ألف التي تنكرت للسلاح فلم تعرفه إلا بعد سنة، نعم لقد فقدوا رجولتهم ولم يستعيدوها إلا بعدما تحركوا من أجل الاغتيال من أجل الذبح من أجل السفك بالفرنسيين..”.
“وعلى جدث تلك الضحايا التعسة الحظ التي سقطت يوم 17 أبريل، سمّى الجنرال “موانيه” في خطاب تأبين ألقاه.. سمّاها المدينة المجرمة”.
“وإنه لمن دواعي الأسف حقا أن لا تسمح الظروف بتلقين الفاسيين المنكرين للجميل الدرس الذي يستحقونه على غطرستهم وحنقهم.. عندما اغتيل الدكتور “موشان” في مراكش اقتحمنا الأرض المغربية انتقاما لروح الفقيد، وأخذنا نعوض عن ذات الدكتور بمدينة وجدة..! وعندما اعتدي على حياة بعض العمال الأجانب في مرسى الدار البيضاء نرى المدينة تتعرض لوابل من القنابل طيلة يومين كاملين، بل ونزل ثلاثة آلاف من الجنود بالدار البيضاء واستولوا على الشاوية.. وهكذا كان المبدأ المتبع دائما يتلخص في أنه عند أقل اعتداء يبدر من الجانب المغربي إلا ويعقبه حالا وبدون تأخير قمع من النوع العنيف القاسي..”.
“فماذا كان العقاب؟ ثمانية وأربعون إعداما فقط! وبعد مضي شهر كامل على ارتكاب هذه المخازي..، ولم يفتأ عدد أمواتنا يتصاعد فأصبح ثمانين..”.
“حقا لقد قرس هذا النبأ (بداية الثورة) قلوبنا ولكن الموقف كان يفرض علينا أن نفكر. يا لها من دعاية خرقاء؟ ثورة نشبت فجأة في فاس وفي الوقت الذي يهم فيه السفير الفرنسي (الميسيو رينو وهو الذي وقع مع السلطان عبد الحفيظ عقد الحماية) بمغادرة فاس. مستحيل؟”.
“إن الجنود هم الذين ثاروا وإن السكان المدنيين التحقوا بالثوار بدورهم، ولقد قتل بالفعل من الفرنسيين ثمانية..”.
“ولقد اتخذت الطلقات في هذه اللحظة شكلا أعنف فمن كل ناحية تصعد شرارة بل إن إحدى الطلقات انبعثت من سطح بجوارنا ولقد أخذنا نسمع لجلجة الأبواب وهي تكسر هنا وهناك! أما “يو يو” فقد تضاعفت..”.
“إن الفتنة تتسع رقتعها من حين لآخر وإن الجماعات تتزايد هي كذلك من وقت لآخر سواء منها الجماعات المدنية أو العسكرية التي تحمل السلاح..”.
“لقد أخذنا نقول في أعماقنا إنه إذا كانت المدفعية قد تدخلت فإن الأمر يدل على أن الحالة جد خطيرة بيد أننا لم نسمع لحد الآن أصداء بنادقنا العصرية لسنة 1886 فهل إن جيوشنا المرابطة بدار دبيبغ على بعد أربعة كيلومترات من المدينة لم تستطع أن تقترب من المدينة، وكيف أنه بعد مضي أربع ساعات على شبوب الفتنة لم يقع بصرنا على جندي واحد من الجيش الفرنسي في الشوارع”.
“وبعد محادثات ومفاوضات فتحنا الباب، إنها الفرقة الرابعة من الرماة الجزائريين (وهذا يبين مدى استغلالهم للجزائريين في عملية الاحتلال) تحت أمر القبطان “بوردنو” الذي أتى لإنقاذنا!!”.
“..فإنه كان يعتقد (الجنرال “بريلار”) أن هناك عاملين بارزين هما اللذان أثارا هذه الفتن والقلاقل، فمن جهة كانت الأخبار التي ترد على الفرنسيين المهتمين بالقضايا كلها تذكر أن المسلمين ممتعضون من توقيع معاهدة الحماية، وثانيا فإن المسلمين لم يرتاحوا لخبر الإعلان عن ذهاب السلطان دون رجعة!..
“فكيف إذن شبت ثورة فاس؟
في اليوم السابع عشر من أبريل عند الزوال، بعدما تناول السلطان طعام الغداء كان يوجد صحبة الوزير المقري في السرادق الصغير للمشور حيث كان استقبل بالأمس رجال القنصلية بعد الغداء الفاخر الذي أعدّه على شرفهم بمناسبة وداعهم.
وفي الحجرة المجاورة كان يوجد الدكتور مورا وزوجته، اللذان وردا لتوديع السلطان حيث أنهما لم يستطيعا أن يصحباه إلى الرباط، وقد كان من المقرر أن يسافر الملك غداة اليوم الثامن عشر من أبريل..
وحوالي الساعة الثانية عشرة وربع سمع السلطان صياحا بعيدا كان يرِد من جهة ساحة المشور..، ولكنه لاحظ أن الواردين هم عصبة من الجنود، أخذت تقترب شيئا فشيئا من المكان الذي يشرف عليه..
إنك سلطاننا، وردنا عليك لنقدم شكوانا بالضباط الفرنسيين الذين يعاملوننا معاملة قاسية..
فأجابهم السلطان قائلا:
عليكم أن تذهبوا إلى الوزير المقري لترفعوا أمامه شكواكم، وحالما تعرض علي سأدرسها بإمعان، فانصرفوا إذن..”.
“إن جماعة أخرى من العساكر تحمل هذه المرة سلاحا نجحت في اختراق أبواب القصر..
وتقدم النواب الثلاثة.. وعرضوا عليه نفس الشكوى..
وبمجرد ما انصرف الجنود الثلاثة، أخذت بوادر عصبة ثالثة للعساكر تظهر في جوانب القصر..”.
ولأن هذه الفرقة الثالثة كانت أكثر جرأة، طالبت السلطان عبد الحفيظ من تمكينها من مخازن السلاح والذخائر، ولما بين لهم عدم الفائدة والجدوى في التكثير من السلاح “خرج الجنود يصيحون بالويل والثبور، ويستنزلون اللعنات.. والتحقوا بأصدقائهم الذين كانوا بانتظارهم بساحة المشور، واتجه الجميع نحو مستودع المذخرات، وأخذوا يحاولون اقتحام الأبواب..
بيد أنهم عندما حاولوا ذلك منعوا من لدن الجنود السود الذين جعلوا في طريقهم الأسلاك الشائكة.
وفي هذه الأثناء اندلعت الشرارة من لدن العصابتين الأوليين.. فلقد قصدت هاتان الجماعتان مركزهما في المعسكر وذلك من أجل إعلان الثورة ضد المدربين الفرنسيين.
وحينا التحقت بهما الفرقة الثالثة التي وردت من القصر، وهكذا اشتعلت النار، وأعلنت الثورة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *