أهو فصل للدين عن السياسة أم إخضاعه لها؟ مصطفى محمد الحسناوي

الإسلام دين شامل ومنهج كامل، يهتم بالفرد قبل ولادته، ويرافقه في جميع مراحل عمره إلى أن يوارى التراب في قبره، كما يهتم بالجماعة، ينظم كل شؤونها من اجتماع واقتصاد وسياسة، ومن ثم فإن دعوات فصله عن حياة الناس أو جزء منها، هي استدراك على الدين واعتراض عليه.
وقد كان للعلماء الكلمة الفصل والدور القيادي والريادي في حياة المسلمين وتاريخ الأمة، وسموا بأهل الحل والعقد، لرجوع الأمة لهم في صغير شؤونها وكبيرها، تستفتيهم وتستشيرهم، فكتبوا وألفوا وعلموا وفصلوا بين الناس في النزاعات والخصومات وقضوا بينهم وصالحوا ووجهوا ونصبوا وعزلوا، وحرضوا وجاهدوا وقاتلوا، فكانوا منارات الهدى ومصابيح الدجى منذ فجر الإسلام، والصفحات تضيق عن سرد الأمثلة على ذلك، نورد منها ما له علاقة ببلادنا، من دور بل فضل للعلماء والدعاة والأئمة والخطباء، وما قدموه في سبيل حريتها واستقلالها ونهضتها وازدهارها، حين لم يكن للصوت العلماني والحداثي أي وجود، لكنه تسلق الظهور، وأصبح يملي ويفتي ويوجه، قبل أن يسعى إلى توظيف العالم في خدمة المشروع الحداثي العلماني.
لقد كان للعلماء الدور الأول والأخير في صد العدوان الصليبي، العلماء وحدهم وليس العلمانيين والحداثيين، العلماء وحدهم من قاد الجهاد ودافع عن البلاد والعباد، وليس من يتشدق الآن بالوطن والوطنية ممن لم تعرف لهم تضحية ولا فداء، ولا بأس أن نذكر هنا موقف ليوطي من رواد مدرسة القرويين، حيث قال المارشال ليوطي:” لا أخاف على وضعيتنا إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين ليتحلق الطلبة حولهم، فيبثوا فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة”. (ذكريات الدراسة في فاس ص:50 قدور الورطاسي ).
وفي ذلك الوقت الذي كان العلماء يسطرون المشاريع والبرامج للنهوض بالأمة، ويرفضون الإصلاحات الأجنبية الفضولية الوقحة، ويقاومون التدخل الغربي الصليبي، كانت إحدى الجرائد العلمانية الاستعمارية العميلة هي جريدة “السعادة”، تروج للعلمانية وطرح منظري الاحتلال، وترحب بالتدخل الأجنبي، داعية إلى فصل الدين عن السياسة، بل تجرأت على العلماء، وحاولت الحجر عليهم، وحاربتهم مدعية أن لا دخل لهم في أمور السياسة، وهو ما يتكرر في عصرنا من نسلها وذريتها.
ومن صور حملة تلك الجريدة العلمانية المسعورة على العلماء، ما جاء في عددها ليوم الإثنين 27 محرم 1323هـ/13 أبريل 1905: “وقد وصلت صورة الحال ببعضهم، من علماء المغرب الأقصى، المنتمين للتصوف المتظاهرين بالذكاء والرجاحة بين أقوامهم، أن أشار على الملك عبد العزيز أيده الله، بمعاكسة حكومة فرنسا، ومعارضتها فيما تطلبه من إقامة الإصلاح الواجب… وأخيرا بلغنا أنه بعث لجلالة السلطان بكراسة مفعمة بترهات همومه… وقديما قيل كل فن يرجع فيه إلى أربابه، فلو أن هذا الشيخ كان من أرباب الفن الذي هو فن السياسة، ومن رجال العلم الواقفين على أحوال العالم السياسي… لا ريب كان له الحق في خوض قاموسه المحيط… لكن حيث لم يترو في النازلة… كنا أول المخطئين له، المصوبين نحوه سهام الانتقاد كما هو الواجب في حق كل صحافي صادق غيور”.
بل كانت تبرر التدخل العسكري، وتعتبر المقاومة والجهاد همجية، كما في عددها ليوم السبت 8 رجب 1325هـ/17 غشت 1907: “…أن ذلك الاحتلال هو ضمانة للحصول على حقوق متأخرة للدولة المشار إليها في جانب المخزن… ثم تطرق إلى حادثة الدار البيضاء، فشرح الهمجية التي بادر العرب بها العملة الفرنسيس، والكيفية الفظيعة التي قتلوهم بها..”.
وقد كانت هذه الجريدة تصف المجاهدين في المغرب والجزائر وتونس بالإرهابيين، وأعمال المقاومة بالأعمال الإرهابية.
ومن الدعوة إلى إبعاد العلماء عن السياسة وهموم الناس ومشاكلهم ومشاغلهم وإسكاتهم وإخراصهم، إلى محاولة تطويعهم وترويضهم، لخدمة أهداف وأغراض ومشاريع أخرى بعيدة عن الدين بل محاربة له، فقد استعملت فرنسا الصليبية الاستعمارية الدين بوسائل وأشكال شتى، كإنشاء المجالس العلمية وتكريم رؤسائها والاحتفاء بهم، وتقريب العلماء الموالين لها ورفعهم.
فأنشأ المشير ليوطي المجلس العلمي في 17 ماي 1914، وجعل على المجلس القبطان “ميلي” كمراقب ومدير لأعماله، وحذت إسبانيا حذوه فأنشأت مجلسا علميا بتطوان وجريدة سمتها “الإصلاح”.
إن عبارة الديني والسياسي عبارة ملغومة، تحيل إلى دين طقوسي لا علاقة له بتدبير شؤون الناس، وقد أصبحت للأسف هذه العبارة واقعا معاشا في بلادنا، ليس لأن الإسلام دين طقوسي بطبعه، بل لأنه أريد له أن يكون كذلك، فمورست بحقه منذ الاستعمار عملية إقصاء، وأحيانا عملية إخضاع وترويض، من أجل تمرير مشاريع لا علاقة له بها، وقد ضربنا أمثلة على ذلك من تاريخنا المغربي.
بعد أن ولى الاحتلال الغربي وحزم حقائبه؛ بقيت سياسته المنادية بفصل الدين عن شؤون الحكم، ولم يكن هذا الفصل حقيقيا ولا منصفا، ففي الوقت الذي يمنع الدين من التدخل في السياسة، تتدخل السياسة في الدين، توجيها ورقابة وعزلا لعلمائه ومساءلة ومنعا واعتقالا، وتطور الأمر حتى أصبح الدين تابعا وخاضعا لإملاءات السياسة وتوجيهاتها، بل وأوامرها المطاعة، فهيمنت عليه حتى صار خادما للمشروع العلماني الحداثي.
وفي هذا الإطار جاء ما سمي بمشروع هيكلة الحقل الديني، بقصد خدمة أهداف علمانية، حتى أن الجهاز المفاهيمي والمصطلحات المتداولة، تحيل إلى أن الدين مجرد رقم صغير في المعادلة، ومجرد أداة لتحقيق أهداف مشروع آخر، كمصطلح (الحقل الديني)، و(الأمن الروحي)، و(إدماج الخطاب الديني في صلب المشروع المجتمعي)، بالإضافة إلى الدعوات والمذكرات والخطابات والتوجيهات الموجهة من السلطات الوصية إلى الخطباء والعلماء، محذرة إياهم من الاقتراب من السياسة.
كان آخرها دليلا جديدا أصدرته وزارة الأوقاف، جعل الأئمة والخطباء خارج السياق العربي والمغربي، المتسم بأجواء الحرية والتحرر والانعتاق، بل في الوقت الذي ترفع فيه جهات عقيرتها بالصراخ، من أجل فتح باب الحريات على مصراعيه، نجد القائمين على الشأن الديني يحثون الخطى من أجل إلزام الخطيب والإمام بسياسة القرود الثلاثة، التي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.
هكذا جاء الدليل الجديد مكرسا لهذه السياسة، حيث يميز فيه بين مستويات، تتراوح بين بعض الإجراءات والتدابير الإدارية والتنظيمية، وبين سياسة تضع الإمام والخطيب أمام حزمة من الممنوعات والمحظورات والطابوهات الجديدة، توازيها حزمة أخرى من الأوامر والإملاءات والتوجيهات، بقصد إخضاع وتوظيف الإمام والخطيب والمسجد لخدمة سياسة بعيدة كل البعد عن الدين وأهدافه ومقاصده. وتحولت علمانيتنا من فصل الدين عن الشأن العام إلى إخضاعه واستغلاله وتوظيفه من أجل السياسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *