كانت الحكومة الفرنسية تدفع كل هذه المقادير -من الرشاوى- وغيرها مما بقي في طيِّ الكتمان تحت عمود “سياسة الضبلون”، أو هكذا كانت تسمى رسميا في لائحة الميزانية الفرنسية, بينما اختار دهاقنة الدول الأخرى طريقة أسمى من الرشوة وشراء الضمائر للتسلط على هذا الوطن, فأبدعوا سياسة الحماية وقد كُتِب عنها الشيء الكثير.
يظهر ضابط فرنسي خبير في شؤون الشمال الإفريقي, شارك في احتلال الجزائر وانبرى للتوسع غربا بحنكته ودهائه وهو الكولونيل “ليون روش”، ويتطوع أولا للدخول للإسلام تحت اسم عمر ولد “روش”, ويتطوع الأمير عبد القادر الجزائري لمساعدته في إسلامه فيزوجه إحدى بنات عمه المسلمات, ولكن عندما ينادي المنادي لمعركة إيسلي ضد المغاربة يكون “روش” من أكبر المحاربين لجيوش محمد بن عبد الرحمن. ثم يلتحق مرة أخرى بالجزائر ليغير هندامه واسمه وزوجته وينزل بميناء طنجة تحت اسمه الحقيقي مستشارا أولا في السفارة الفرنسية بطنجة. وبذلك يبدأ في تنفيذ مخططه.
وكان المخطط الجهنمي لـ”روش” الدبلوماسي, هو استكناه نقط الضعف في المغرب وبلورتها ووضع الأصبع على مناطق الانهيار. ونقطة الضعف هاته في مغرب الأمس مثل اليوم: هي الدرهم، وآنداك كانت هي الضبلون “عملة ذهبية”، ويفتح “ليون روش” عهد الاستعمار في المغرب ويضع حجر أساسه وهو: الرشوة واستغلال النفوذ.
أولا: دفع لحميدة الشجعي الذي أمضى اتفاقية لالَّة مغنية والتي تسطر الحدود المغربية الجزائرية بعد هزيمة إيسلي عمولة قدرها 25.000 فرنك.
ثانيا: احتار وزير السلطان ومستشاره وأمين سره الوزير محمد بن إدريس وأعطاه رشوة قيمتها 10.368 فرنك.
ثالثا: أعطى لبوسلهام أزطوط الذي مثل المغرب في مفاوضات لالَّة مغنية: 25.900 فرنك.
رابعا: أعطى لباشا طنجة عاصمة المغرب الدبلوماسية 18.000 فرنك.
وهي مقادير خيالية إذا ما قورنت بقيمتها اليوم حيث كان الفرنك آنذاك يعادل مائة دراهم اليوم. وكانت الحكومة الفرنسية تدفع كل هذه المقادير وغيرها مما بقي في طيِّ الكتمان تحت عمود “سياسة الضبلون”، أو هكذا كانت تسمى رسميا في لائحة الميزانية الفرنسية, بينما اختار دهاقنة الدول الأخرى طريقة أسمى من الرشوة وشراء الضمائر للتسلط على هذا الوطن, فأبدعوا سياسة الحماية وقد كُتِب عنها الشيء الكثير.
إن المغاربة مجبولون على حبّ الذات, وما أضعفهم أمام قوة الأجانب. وأصبح كل مغربي يتوق إلى أن يرفع على بيته علم دولة ما.. هذا يرفع العلم الأمريكي ويصبح من رعايا الدولة الأمريكية, وهذا يرفع على بيته العلم الإنجليزي ويصبح بذلك من رعايا الدولة العظمى, وهكذا أصبحت البلاد مكسوة بأعلام الدول. وكل قصد المغاربة المحميين الهروب من أداء الواجبات والتملص من الضرائب أو من امتثال لأوامر موظفين لا يرضون عليهم, أو مجرد الحضور في الحفلات الرسمية الأجنبية.
وإذا كانت الرشوة قرحة تمس نقطة معينة في الجسم فإن الاحتماء بالأجنبي أصبح يغزو الجسم المغربي كالبَرَص.
لقد أصبح الدبلوماسيون الأجانب في طنجة يتبادلون النكت فيما بينهم, كم مغربي رشوته اليوم؟.. وكم مغربي جردته من مغربيته اليوم؟
والسلطان في تلك الأثناء يعاني ويعاني والمرض ينخر جسم البلاد..
ولم تبق قواعد اللعبة متكافئة: فمن جهة, الغزاة المتسترون وراء التمثيلات الدبلوماسية, هناك المال, والحماية والمناورات, والفتن الداخلية, والاحتلال الاسباني لسبتة ومليلية, ومن جهة المغرب, هناك المشاريع التي يعول عليها, وكلها تعتمد على هؤلاء الدبلوماسيين وعلى خبرائهم ومهندسيهم. وهناك الجهل والعادات والتقاليد, وهناك العجرفة القبلية وحب الذات.. وهناك الغزو الفرنسي للأقاليم المغربية في توات والساورة، ومحاولة الانجليز لاحتلال طرفاية ومحاولة فرنسا لاحتلال المناطق الشرقية.
كان طبيعيا أن تؤثر هذه الأحداث على المغرب, وأن تترك معالمها على محيا هذه الإمبراطورية القوية الواسعة الأطراف.
عن كتاب: “الحسن الأول” مصطفى العلوي