المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي- قضايا و إجابات عن مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية

ثانيا: قضية عدم الفصل بين علوم الفلسفة اليونانية:
يتبين للباحث في تاريخ الفلسفة اليونانية –خلال العصر الإسلامي – أنها ظلت محتفظة بعلومها الرئيسية الأربعة (المنطق، الإلهيات، الطبيعيات، المقادير) ولم يحدث لها فصل وتفكيك واضحين لاستقلالها عن بعضها، فما حقيقة هذا الترابط؟، ومن الذين كان عليهم أن يقوموا بذلك الفصل؟، وهل ما قام به المتكلمون المتأخرون من إدخال للمنطق في العلوم الشرعية يُعتبر نموذجا للفصل المطلوب؟، وما هي آثار عدم الفصل على المسلمين؟
فبخصوص التساؤل الأول، فإن ذلك الترابط هو ترابط وهمي لا حقيقة له، ولا ضرورة تدعو إليه، لأن علوم الطبيعة والرياضيات علوم طبيعية موضوعية منفصلة تماما عن أفكار البشر ومذاهبهم؛ ومن ثمّ فهي أيضا منفصلة تماما عن إلهيات – ميتافيزيقا – اليونان ومنطقهم، لذا كان من الواجب أن يُفك ذلك الترابط الوهمي، لكنه لم يحدث خلال العصر الإسلامي، وبقيت إلهيات اليونان متغلغلة في تلك العلوم وملطخة لها، فكان على الذي يريد دراسة الطب مثلا، عليه أن يدرس كل فلسفة اليونان وما فيها من خرافات وضلالات.
وأما التساؤل الثاني، وهو: من الذين كان عليهم أن يقوموا بالفصل بين علوم الفلسفة؟، فإن الذي كان في مقدورهم القيام بذلك وليس واجبا عليهم، فهم الفلاسفة –على اختلاف تخصصاتهم- لأنهم من أهل التخصص ومن أبناء الفلسفة اليونانية، وأما لماذا ليس واجبا عليهم فلأنهم من رجال الفلسفة، ينتمون إليها ويحبونها ويدافعون عنها، فهذا قد يدفعهم إلى عدم فصل علومها خوفا عليها من التشتت والضعف والضياع!.
وأما الذين كان واجبا عليهم أن يسعوا لفصل علومها، فهم علماء أهل السنة، بما أنهم رفضوها وقاوموها؛ فكان عليهم أن يفصلوا علومها النافعة عن علومها الضارة، ويفكوا ارتباطها بإلهيات اليونان نهائيا، ليقدموا البديل الإسلامي العلمي لعلوم الطبيعة و الرياضيات والفلك وغيرها من العلوم النافعة، وهم وإن لم يكن تكوينهم العلمي يسمح لهم بالقيام بذلك، فكان في مقدورهم أن يسعوا ويتعاونوا لتكوين أطباء ومهندسين وفلكيين ورياضيين سنيين ملتزمين يتولون عملية الفصل وفق أسس إسلامية علمية صحيحة.
نعم قد أشار بعض علماء السنة إلى الفصل النظري بين الفلسفة وبعض علومها، كالطب والفلسفة، وقد ذكرنا على ذلك أمثلة في الفصل الثاني؛ وروينا أيضا أن السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب عندما أمر بحرق كتب الفلسفة استثنى منها كتب الطب والحساب وما يُتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار واتجاه القبلة، كما أن الحافظ الذهبي قد استثنى الطب والهندسة من علوم الأوائل التي ذمها، لكن ذلك ظل أمرا نظريا وتصرفا فرديا محدودا، ولم يتحول إلى عمل علمي تطبيقي هادف ومخطط له لفصل العلوم الطبيعية النافعة عن فلسفة اليونان، بناء على أسس علمية تجريبية استقرائية، ضمن إطار إسلامي عام، فهذا الأمر لم أعثر له على أي خبر يُشير إلى أنه تمّ في العصر الإسلامي، مع أهميته ووجوبه شرعا، وعقلا، وعلما، وواقعا، فكان من اللازم القيام بذلك العمل، لكنه لم يحدث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *