السياق الحقيقي لدعوة عيوش إلى “مَغْرَبَة” العربية الفصحى مصطفى محمد متكل

الدعوة إلى إحلال العامية في لغة التعليم، والإعلام، والمؤسسات محلّ العربية الفصحى، دعوة قديمة أخذت من النقاش اللغوي، والثقافي، والسياسي مساحة واسعة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خصوصا في مصر وفي بعض دول الشام، وهي في الحقيقة حلقة من حلقات “المساجلات والمعارك” التي خاضها أعلام الفكر، والفقه، واللغة، والأدب، والتاريخ، والفلسفة، والسياسة، في المجالات المعرفية، والثقافية، والإنسانية المختلفة، في سياق تاريخي متّسم بصدام المرجعيات، والأيديولوجيات، والأفكار، خاصة منها تلك التي كانت تُشكّل أو على الأقل تؤثر في صناعة الرأي المؤسساتي والعام للمجتمعات الشرقية.
وكان من نقط الارتكاز التي عَمّ فيها الخلاف وقتها وخصّ، وجُذب فيها الرأي وجُبذ، وأطلق فيها الحديث وبُسط، قضية الفصحى والعامية، حيث كانت الأقلام والكتب تتناولها من خلال ثلاث نقط:
– الأولى: اتخاذ العامية لغة الكتابة في التعليم، والإعلام، والأدب، حمَلت شعار: “تمصير اللغة” أو إحياء “اللغة المصرية”.
– الثانية: كتابة العربية بالحرف اللاتيني، لأن الحرف العربي بالإضافة إلى كونه معقّدا وثقيلا! ليس عربيا! وإنما هو من أصول آرامية!
– الثالثة: إلغاء قواعد اللغة العربية جملة، وإحداث ما يسمى بـ”نحو الشعب”، و”بلاغة الشعب”!
هذه النقط الثلاث هي التي كشفت عن عمق الهوّة، وسعة المسافة بين تيارين فكريين ظلاّ طوال عقود من الزمن يتعاركان ويتدافعان مرجعياً، وعقديا، وأيديولوجيا، في ميادين الفكر، والأدب، والسياسة، على صفحات الجرائد والمجلات السيّارة، وفي كتب الرّد، وكتب ردّ الردّ، أحدهما اعتز بدينه، وتاريخه، وتراثه، ولا يرى سبيلا إلى التقدم الإنساني، والسمو المادي والروحي، والشهود الحضاري، إلا بالدفاع المستميت، والتشبث الصامد بهوية الأمة، ومقدّراتها، ومقوماتها في كل أبعادها الدينية، والعلمية، والأخلاقية، واللغوية، فرفع لواء “حفظ الانتماء للأمة الخّيرة”، و”الانطلاق والعودة إلى الذات والتاريخ”، ورفض بالتالي تلك الدعوات الشاردة المغلّفة بغلاف التحديث، والتجديد، والتبسيط، والتقريب، والتي لم تكن في حقيقتها سوى دعوات إلى التغريب، والتفرنج، والذوبان، والمضاهاة، والتشبه، والميوعة، والانهزام، والانفلات…
قاد هذا التيار -الذي يمكن أن نصفه بالشعبي والشرعي، وليس المحافظ كما ينعتونه تنقيصا وتبخيسا- نخبٌ عالمة أمثال: مصطفى صادق الرافعي، وخليل اليازجي، وأحمد محمد شاكر، ومحب الدين الخطيب، ورشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، ومحمد أحمد الغمراوي، وأحمد الحوفي، وإبراهيم مصطفى، وأحمد سليمان، وعلي يوسف، ومحمود شاكر في آخرين…
وثانيهما هو التيار الحداثي الانقلابي، الذي كانت له آراء وأطاريح جدُّ جانحة في الدين، والأخلاق، والفلسفة، والتاريخ، والأدب، واللغة، مستوحاة في أغلبها من النموذج الإنجليزي الغربي، أو من النماذج الفلسفية الشرقية، حاول بكل ما يملك من قوة، أن يؤسس لشرعية هذه الأطاريح، ويروّج لها، ويدافع عنها، إعلاميا، وثقافيا، وسياسيا، مرة باسم حب اللغة العربية نفسها!! ومرة بتقديمها على أنها نتاج العقل، والعلم، والحرية، والتجديد، والتنوير، وكان يعتبر ما عدا هذه الآراء، ظلاما في ظلام، وتقليدا في تقليد، واستكراها في استكراه!!
قاد هذا التيار فئات استشراقية و”تبشيرية” معزولة، أمثال ولكوكس، وكارل فولرس، وسلدن ولمور، وولهلم سبيتا، وأخرى متغربة ومتفرنجة، لا تخفي انبهارها، وربما ولاءها لكل ما هو أجنبي أمثال: سلامة موسى، وعبد العزيز فهمي، ولطفي السيد، ولويس عوض، وعبد الحميد عبد الغني، ومحمد فريد أبو حديد، وجميل صدقي الزهاوي، في آخرين…
هذه الفئة وإن كانت ضئيلة ومعزولة، إلا أنها استطاعت أن تبقى في الساحة الفكرية زمانا، بل وتُبقي لها أثرا -طبعا سيئا- في تاريخ الأدب العربي الحديث، لأنها بكل وضوح كانت تتلقى الدعم الإعلامي والسياسي الكافي خارجيا وداخليا.
استمر هذا التدافع بين التيارين إلى ما بعد عقد الخمسينات، ثم بردت بعد حين وهجته، وانحسرت مساحته، ولم يسمع له الناس صدى قويا كما سمعوا من قبل، اللهم ما كان من أصوات مخنوقة تعلو المرة بعد المرة هنا وهناك، وتصيح الفينة بعد الفينة في هذا النادي أو ذاك.
كل تلك المعارك دارت رحاها في المشرق، وطُحنت حنطتها هناك في أرض الكنانة، أما في المغرب فلا تزال اللغة العربية في ذلك الوقت نسبيا معافاة ومحفوظة، لها مناعة وسلطان، لمكان القرويين، وابن يوسف، والمدارس العتيقة، والمساجد الأهلية، والكتاتيب القرآنية المنتشرة في مدن وقرى ومداشر المملكة، والتي كانت بحق قلاعا حصينة، وجبهات منيعة تكفلّت بحفظ وصيانة أصول وقواعد اللغة العربية من كل متربص بها، أو حاقد عليها، وليس حينها من متربص أو حاقد، سوى فئة قليلة من متفرنسي ومنهزمي البلد، لا يجدون في كثير من الأحيان لدعواتهم سامعا أو منتبها.

سياق الدعوة العيوشية إلى العامية
لا يمكن حتما أن نعتبر دعوة رئيس جمعية زاكورة نور الدين عيوش في مذكرته التي رفعها إلى الملك، وإلى رئيس الحكومة، ووزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، والمجلس الأعلى للتعليم، وجميع المؤسسات المهتمة بقطاع التعليم، وفعاليات المجتمع المدني والأحزاب، ودعا فيها صراحة إلى إحلال العامية المغربية محلّ ما تبقى من العربية الفصحى في مناهجنا التعليمية والتربوية، ووضع حد للكتاتيب القرآنية، امتدادا لتلك المعارك الأدبية التي عرفها الوطن العربي، أو استمرارا لتلك الأصوات المبحوحة التي ظلت تصرخ بضرورة إخراج العربية الفصيحة من تابوتها المحنّط! وقواعدها الآلية الجافة! وأساليبها الثقيلة المعقدة! إلى اللغة العامية المتحررة! السلسة! المنسابة! المنطلقة! التي يسهل على الناس كتابتها وقراءتها، كما قد سهل عليهم التحدث والتحاور بها.
لا يمكن أن نصنف الدعوة العيوشية في هذا الإطار، لافتقارها على الأقل من الناحية التحليلية لكل مقومات العلمية، والواقعية، والتاريخية، وافتقادها للسياق الفكري، والشرط الثقافي الذي فرضته ظروف تلك المرحلة التي أنتجت “المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة” بتعبير الأستاذ أنور الجندي رحمه الله.
فما هو إذن الإطار الذي يمكن فيه قراءة دعوة عيوش هذه، إذا لم تكن في إطار ذلك السياق، وضمن تلك الشروط؟
أعتقد أنني لن أكون ساذجا وسطحيا، أو من المؤمنين بإطلاق “بنظرية المؤامرة”، إذا قلت إنها جاءت في سياق الاستهداف المتوالي والممنهج لكل ما هو مصبوغ بالعربية، سواء كان دينا، أو لغة، أو ثقافة، أو أعرافا، نعم لن أعدو الحقيقة إذا قلت ذلك، ولن أكون متجنّيا إذا انتهيت إلى هذا الحكم، ولن أكون أيضا غاليا إذا شبّهت دعوة عيوش اليوم بدعوة شريف الشوباشي صاحب كتاب: “لتحيا اللغة العربية.. يسقط سيبويه” بالأمس، أو بدعوة أحمد رضا بنشمسي مدير مجلة “نيشان” الميتة بالأمس القريب، لأن شواهد الواقع وأدلته تصرخ بأن دعوات الفرنكوفونيين، والتّمزيغيين، والمستأصلين، والمنهزمين أينما وجدوا، كلها تسير في اتجاه الحرب على العربية، ومنها إلى الحرب على الإسلام رأسا، أوَ ليس عيوش نفسُه أعقب دعوته إلى “مَغْربة” لغة التعليم، بإلغاء الكتاتيب القرآنية، لأن “التعليم الأولي لا يجب أن يبقى دينيا” كما كتب في مذكرته الآثمة؟
ماذا يبقى لهذا الدين إذا درّجنا لغة التعليم؟ كيف ستقرأ أجيال الدّارجة القرآن الكريم وتفهمه، وتستنبط منه؟ وكيف ستتعامل مع كتب الحديث والأدب والتاريخ؟ أم أرادوها لغة طقوسية محنّطة، لغة التعبّد والزمزمة، لغة رجال ونساء وأطفال الدّين! أليس هذا نكوصا إلى الوراء؟ وردة عمياء عن المكتسبات؟ واستبدالا للذي هو أدنى بالذي هو خير؟ كيف نفزع إلى العامية، وهي بحسب الدرس اللّسني عربية متأخرة، ونترك الفصحى وهي اللغة المعيار المتقدمة، التي تمثل أرقى مستويات العربية؟
لا أريد أن أبسط الكلام في مرجوحية اللهجة العامية وقصورها عن الفصحى من الوجوه العلمية والواقعية، ولا أريد أيضا أن أسترسل في بيان أسباب وخلفيات ومقاصد دعاة العامية، فقد تكفّل به حراس الأمة وحماتها، ويمكن الرجوع إلى ما كتبوه مما أشرت إليه سابقا، فإن فيه الغنية والكفاية، ولكنني أنبه على نقاط أرى أن لها أهمية حاضرة وهي:
1- دعوة عيوش هي في الحقيقة دعوة سياسية وليست ثقافية، تروم التشويش، ولفت النظر، وإشغال الناس وصرفهم عن الاهتمام بالقضايا الكبيرة للأمة المغربية، واصطناع معارك وهمية لا صلة لها باهتمامات الناس وواقعهم، ثم إنها دعوة مفرغة من محتواها، أي لا فائدة علمية منها، لأن المغاربة كل المغاربة، لا يجدون أصلا صعوبة في فهم اللسان الدّارج.
2- دعوة عيوش مخالِفة للدستور المغربي، الذي ينصّ في فصله الخامس على أن العربية -أي الفصحى- هي اللغة الرسمية للدولة، وبالتالي يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في الدفاع عنها، ورد الهجمات المتتالية عليها، وإلا فلا معنى لعبارة الدستور في نفس الفصل: “وتعمل الدولة على حمايتها، وتطويرها، وتنمية استعمالها”.
3- نحمّل الحكومة المغربية المسؤولية الكاملة في أي وضع متأخر وهامشي قد تصير إليه اللغة العربية أكثر مما هي عليه اليوم، لأن الدستور أوجب عليها الحماية، والتنمية، والتطوير.
4- نؤاخذ على الحكومة المغربية في جملة ما نؤاخذ عليها، تأخرها في إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، المنصوص عليها في نفس الفصل من الدستور، وتأخرها في إخراج القانون التنظيمي الذي يحدد صلاحياته، وتركيبة أعضائه، وكيفيات سير عمله.
5- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية معنية أيضا بشكل مباشر بمذكرة عيوش التي دعت إلى إلغاء الكتاتيب القرآنية، وإجهاض ما تبقى من المواد الشرعية في مؤسساتنا التعليمية، وهنا فعلا نريد من وزارة الأوقاف أن يهزها الحرص على الأمن الروحي للمغاربة، وتأخذها الغيرة على الخصوصية المغربية الدينية واللغوية.
6- وزارة الثقافة لها المسؤولية الكبيرة أيضا في صيانة الهوية اللغوية لهذا البلد، لذلك من تمام واجبها العمل على إنهاض اللغة العربية، وتشجيعها، وتنميتها، وتطويرها في مختلف أعمالها وأنشطتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *