ضاعت المدرسة بقلم الحبيب أبوالفتح مهندس مدني متقاعد

منذ أن اختلطت الأوراق وبدأت المدرسة يفعل بها كل شيء ضاعت المدرسة.
فهي صارت ملجأ كل مشاغب لا تهمه القراءة وهمه الوحيد هو اللعب والتهكم من كل شيء وتجريب مهارته في مسرح الضحك والبهلوان. وإن كنت مدرسا في هذا الزمان وقلت لا يمكن لي أن أضبط القسم في هذه الظروف يقال لك: “اصبر على هذا الشاب فإننا إن طردناه سيصبح يتسكع في الطرقات وتـلتقمه عصابات الحشيش”.
المدرسة أصبحت إذا ملجأ “خيرية” كما يقال. ضاعت المدرسة وضاع معها أولاد الشعب الذين يكدون ويجدون ويجتهدون.
ضاعت المدرسة منذ أن قيل “الكل يجب أن ينجح… يجب أن نفرغ الكراسي للقادمين الجدد”. ولو حصل التلميذ على معدل 2 على 10؟ ولو… فالتعليمات صارمة!!
هذا يسمى في مصطلح التربية الوطنية “الخريطة المدرسية”. وفي هذه الخريطة العجيبة ضاعت المدرسة.
لا تهمنا المدرسة وما تنتج؛ المهم عندنا هي الإحصائيات ونسبة التمدرس لنقدمها للمجتمع الدولي ونحن فخورين بهذه الأرقام.
فهذه هي سياسات التعليم منذ أن فرض علينا “برنامج التقويم الهيكلي” في الثمانينات من القرن الماضي.
قال البنك الدولي “ألغوا جميع المشارع الاجتماعية من بناء مدارس ومستشفيات وطرق…”. واليوم نسينا هذا المعطى المهم وبدءنا نبحث كأننا جئنا من كوكب آخر “ماذا وقع؟ كيف وصلنا إلى هذا…؟”.
هل من القدر المحتوم علينا ونحن بلد في طريق النمو أن ندبر أمر تعليمنا بهذه الطريقة؟
ومتى سنخرج من بؤرة التخلف وقد قيل في المثل: “من لم يتقدم يرجع إلى الوراء”؟
يجب علينا أن نتساءل ماذا نريد؟
هل نريد الكم كيفما كان أم نريد الجودة في الإنتاج؟
أم نريد فقط ربح الوقت سياسيا حيث نعترف ضمنيا أن مشاكلنا الاجتماعية قد تفوق قُدُراتنا. لا يجوز ذلك إذ إنها الأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة.
لا يمكن أن نستمر في الكذب على أنفسنا. فما هو الحل إذن؟
حسب رأيي المتواضع الحل الوحيد وحتى تبقى المدرسة “مدرسة” وليست “خيرية”! هو إعطاء الأولوية في بناء عدد من الأقسام كل عام يستوعب معدلا حسب الإحصائيات للوافدين الجدد ناقص المعدل حسب الإحصائيات للمؤهلين حقيقيا للمرور إلى المرحلة الموالية.
وأؤكد وأقول “حقيقيا” حتى لا يمر إلى المرحلة الموالية إلا مستحقيها مع الإذن بإعادة المرحلة مرة واحدة فقط وتلغى بصفة نهائية سياسة “الخريطة المدرسية”.
ذلك أنه حين يجد الأستاذ نفسه أمام مستويات متفاوتة جدا في القسم الواحد يكون في حرج من أمره؛ وربما يقع له ما وقع للأستاذ الذي طعن بسكين من الخلف وهو يفسر الدرس في السبورة.
لا مناص إذن من بناء الأقسام اللازمة كل عام وإلا سنبقى نخبط خبطة عشواء.
أما أبناؤنا الذين لا مزاج لهم للدراسة فعلينا أن نواكبهم في المؤسسات المعروفة: الدعم النفسي والدراسي، التكوين المهني لإنقاذ كل من يمكن أن ينقذ.
ولا ننسى الدور الدعوي والأخلاقي للمجالس العلمية بتنظيم محاضرات متتابعة في المؤسسات المدرسية حتى نهتم بشكل متوازي مع الدراسة بالأخلاق السامية التي جاء بها سيدنا محمد عليه أزكى الصلوات والسلام حيث قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وحيث قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولنفتح المجال لكل مواطن كفء غيور على وطنه في المجال الدعوي ليؤطر النشء ويوجههم ويرشدهم لما فيه صلاحهم في الحال والمآل.
هذه هي الضريبة التي يجب أن نصبر عليها ونؤديها لصالح أبنائنا؛ فالدين والأخلاق عاصمان من الانفلات والضياع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *