يبدو من خلال تداعيات الأحداث الدامية التي عرفتها الدار البيضاء منذ 16 ماي 2003 أن الأحزاب العلمانية اليسارية قد وجدت متمسكا تحيي من خلاله ما تحلل من إيديولوجياتها المادية، فالأحزاب التي شاخت على الصراع ضد العلماء والقيم الدينية، مافتئت تصرح علنا على صفحات جرائدها وفي ندواتها ومختلف أنشطتها الحزبية بضرورة التصدي ومحاربة التطرف والإرهاب وتدعو بين الفينة والأخرى إلى تبني العلمانية كحل، موهمة المغاربة أن أمر التطرف والإرهاب راجع أولا وقبل كل شيء إلى مسألة إيديولوجية فكرية.
هذا على الأقل ما صرح به الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير الاتصال وعضو الديوان السياسي والمسؤول على قطب التواصل بحزب التقدم والاشتراكية “نبيل بن عبد الله” داعيا إلى القيام بما أسماه: “معركة الصراع الفكري الإيديولوجي”.
وحتى نستبين طبيعة الصراع الفكري الإيديولوجي، وهوية الأطراف المتصارعة نورد تصريح الوزير والمناضل التقدمي الاشتراكي مناقشين ما تضمنته عباراته من دلالات خطيرة، ربما تكون سببا في وقوع تطورات أخطر على مستوى حدة التطرف ببلادنا، نظرا لحمولتها ذات الطابع الحربي ولصدورها عن ناطق باسم الحكومة.
وقفات مع تصريح بن عبد الله
تحدث بن عبد الله إلى وسائل الإعلام وكأنه يحاضر أمام اشتراكيي حزبه قائلا: “إذا اقتصرنا على تفسير الإرهاب بالفقر والتهميش، آنذاك نتساءل معكم، كيف يمكن أن نفسر أحداث مدريد؟
وكيف يمكن أن نفسر أحداث لندن؟
هل هذه المدن تحيى درجة من الفقر والتهميش مثل ما نلاحظها في بعض أحياء الدار البيضاء؟
معنى ذلك، أن هذا الأمر راجع أولا وقبل كل شيء إلى مسألة إيديولوجية فكرية، إلى انحراف كبير في التعاطي مع القضية الدينية وإلى فهم مغلوط للمقومات الأساسية لديننا الإسلامي الحنيف مما يعني أن المعركة الأولى التي يجب أن نخوضها هي معركة الصراع الفكري الإيديولوجي وعلى المستوى الديني كذلك مع هذه الانحرافات التي نلاحظها على هذا المستوى”اِنتهى كلامه.
ولنا معه هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: الفقر وظاهرة الإرهاب
في الحقيقة يحار المرء في تحديد نوعية المِظلة التي تحدَّث من تحتها الوزير، أهي مظلة حزب التقدم والاشتراكي؟ أم هي مظلة الحكومة بصفته ناطقا باسمها؟ أم مظلة وزارة الإعلام بصفته وزيرا للاتصال؟ وذلك نظرا لأهمية المظلات الثلاث وحساسيتها بالنسبة لموضوع مكافحة الفكر المتطرف، فعلمانية حزب التقدم والاشتراكية وسياسة الانفتاح الإعلامي المتسيب الذي عرفه المغرب خلال إشراف الوزير على وزارة الاتصال وحدهما كفيلان بأن يذكيا نار التطرف ويزيدان من صعوبة إقناع مَن غُرِّر به من شباب المغرب.
وتزداد تلك الصعوبة عندما تنضاف إلى ذلك محاولة التلبيس الذي تعمده الوزير عند حديثه عن أسباب التطرف مقللا من أهمية سبب الفقر والتهميش الذي تعاني منه الأحياء التي ينحدر منها كل من فجروا أنفسهم، وذلك حتى يقلل من شأن مسؤولية الدولة عن تردي الأوضاع في الأحياء المذكورة من جهة، وحتى يتمكن من إبراز التطرف الديني كعامل أساسي وجوهري في عمليات التفجير من جهة ثانية.
وهنا نُسائل الوزير عن تلك العقود الطويلة التي كان فيها حزبه يحارب النظام المغربي ويتخذ من مسألة الفقر والتهميش جوهر نضاله من منطلق لينيني مادي قاتم منددا باستغلال المَلكيَّة للدين كإيديولوجيا لتكريس القهر والاستعباد؟
فهل تحوَّلَ الوزيرُ بعد الوظائف السامية المتعددة والرواتب الضخمة والغنى الفاحش من مناضل عن البرولتاريا إلى مطالب بتصحيح الفكر المتطرف وفق منظور النظام للدين ومقوماته؟
إننا لا نشك في كون الفقر ليس عاملا أساسيا في ظاهرة الإرهاب إلا أن وجوده بشكل مدقع يساعد في تهيئة نفوس اليائسين لتقبل تفجير أنفسهم نظرا لخلوها من أي تعلق مادي بالملذات والترف مما يجعلها أكثر قابلية للتضحية بالنفس في سبيل القناعات الخاطئة التي يحسبونها حقا وواجبا.
ونعتبر كذلك أن الفكر العلماني المعادي لأي سلطة للدين على المجتمع لا يقل خطورة عن الفهم المغلوط للدين وأحكامه لكونهما معا من الأسباب المباشرة لولادة ظاهرة التطرف والإرهاب في المغرب.
الوقفة الثانية: الفهم المغلوط للمقومات الأساسية لديننا الإسلامي الحنيف
إن فساد السياسيين وإفسادهم وتلبيسهم على المواطنين يمكن اعتباره من أهم الأسباب المنتجة للتطرف الديني، فكيف يمكن ألا يستفز نبيل بن عبد الله أكثر الناس اعتدالا وتوسطا وهو يسمعه يتحدث عن الفهم المغلوط للمقومات الأساسية لديننا الإسلامي الحنيف، فعن أي فهم مغلوط يتحدث هذا الراغب في محاربة التطرف؟ وعن أي مقومات الإسلام يتكلم؟
فهل يعلم وزير الاتصال أن نظرة حزبه العلمانية للإسلام وما تنشره جريدته “بيان اليوم” التي كان مسؤولا عنها لسنوات من شبهات حول الدين الإسلامي هي من أقوى أسباب ظاهرة التطرف بالمغرب؟
وهل يرضى الوزير بفتح نقاش علمي مع المتطرفين حول أكبر القضايا المفرزة للتطرف مثل: ضوابط التكفير، والحكم بشريعة الإسلام بدل القوانين الوضعية، وإعانة الكفار على المسلمين، ومفهوم الولاء والبراء وقضايا الربا والقمار والخمور؟
إن عامة العلمانيين يساوون بين النصرانية والإسلام ويطالبون بأن تُقلص الحداثة العلمانية من ظل الإسلام حتى لا يعدو ظلال جدران المسجد، تأسيا بأوربا التي ما أحرزت التقدم والقوة إلا عندما قلصت من ظلال النصرانية وسجنت دينها بين جدران الكنيسة.
كما يلبسون عمدا بين مفهوم حماية دماء غير المسلمين في الإسلام وبين المفهوم العلماني للتعايش والمحبة والانفتاح على الآخر، كما يجعلون أحكام وتعاليم الإسلام من صلاة وزكاة وصوم مسألة شخصية غير ملزمة، بل يجعلون الكفر بالإسلام واعتناق البوذية مثلا حرية اعتقاد شخصية ومن ثم يطالبون بالسماح للمنصرين بدعوة المغاربة إلى النصرانية ولا يرون مانعا في بناء المزيد من الكنائس والبِيَع.
فهل هذا التكييف العلماني للمقومات الأساسية للدين الإسلامي الحنيف هو الذي سيقنع المتطرفين والغلاة بتصحيح فهمهم للإسلام وأحكامه؟
أم من شأنه أن يجعل كل من مسته نزعة التطرف قنبلة موقوتة وأحزمة ناسفة؟
وهل يطالب الوزير المتطرفين بتصحيح انحرافهم الكبير في التعاطي مع القضية الدينية انطلاقا من مفاهيم حزبه الاشتراكي العلماني؟
الوقفة الثالثة: الدعوة إلى معركة الصراع الفكري الإيديولوجي
نسائل الوزير بداية في هذه الوقفة عن هوية المتحاربَين في معركة الصراع الفكري الإيديولوجي، أهي الحكومة المغربية ضد المتطرفين؟ أم هي الأحزاب العلمانية ضد الفكر المتطرف؟
وهل يطالبنا الوزير بتبني إيديولوجيته الاشتراكية البائدة أم إيديولوجيته الجديدة التي هي مزيج بين الهمبوركر الأمريكي المغلف بالحداثة الأوربية؟
وهل يرضى الوزير أن نحكم نصوص المذهب المالكي في التعاطي مع معضلة التطرف والإرهاب؟
لقد استغل الوزير منصب الناطق باسم الحكومة استغلالا بشعا حيث دعا إلى معركة الصراع الفكري الإيديولوجي، وبذلك يكون قد ارتكب جناية في حق كل المغاربة تستوجب التعجيل بإقالته.
فكيف يعقل أن يدعو إلى حرب إيديولوجية وهو يعلم بوصفه مارس الخروج على النظام لسنوات عديدة أن المعركة الإيديولوجية تقود حتما إلى المعركة المسلحة، مما يبين بوضوح أن الوزير لم يشتبه عليه الأمر وإنما يريد أن يجر الحكومة المغربية إلى حرب لن يربح من جرائها سوى المد العلماني ومن يهمّه أن يختل أمن البلاد، حتى تسقط البيعة وتلغى إمارة المؤمنين وتشطب من ديباجة الدستور “عبارة دين الدولة الإسلام” حتى تُحكم العلمانية قبضتها على مقاليد الأمور في المغرب.
إن التطرف الديني يبقى مسألة إسلامية-إسلامية، لا دخل للإيديولوجية العلمانية فيها، فكل تدخل علماني من شأنه أن يزيد من فداحة النتائج وفظاعتها، لذا من الواجب أن تتدخل السلطات -وهي تعلم جيدا كيف تتدخل- لمنع أي عنصر علماني رسمي من أن يتكلم باسم المغاربة عن محاربة التطرف أو الإرهاب، وأن تحث المسؤولين في وزارة الأوقاف على الاستعانة بالعلماء ذوي المصداقية لدى المتطرفين المغاربة سواء داخل المغرب أو خارجه، وفتح حوار علمي بين العلماء والغلاة حول القضايا الحساسة التي تدفع بفلذات أكبادنا إلى تفجير أنفسهم وإخوانهم من أجل مصلحة شرعية متوهمة.
إن السماح بنشر الفكر العلماني المتطرف على صفحات الجرائد، والترويج لمقاربات الإصلاح اللادينية على القنوات الوطنية يعتبر من أهم الأسباب المباشرة لتفشي ظاهرة الإرهاب في الآونة الأخيرة.
فهلا أخضعنا مسألة الإرهاب لسلطان النصوص الشرعية الدينية بدل الإعراض عن مواطن النزاع وتركها “طابوهات” مخافة أن يوصلنا النقاش والبحث إلى إحراج يكشف لنا حقيقة ثمار العبث العلماني في بلادنا، ونتائج تنكبنا عن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وهدي أسلافنا الصالحين رضوان الله عليهم.