الحرب التي دارت رحاها في القوقاز بين روسيا وجورجيا على مسرح أوسيتيا الجنوبية، لم تكن مجرد مناوشات عسكرية ينتهي أثرها بوقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات بين الأطراف المتصارعة، وإعادة ترتيب الأوضاع مجددًا في المنطقة وفق ميزان القوى الذي فرضته الفاعليات العسكرية.
فحرب الأيام الخمسة خلفت من ورائها آثارًا أكبر مما كانت تتوقعه جورجيا بمغامراتها العسكرية غير المحسوبة..، وتعدت تلك الآثار النطاق الإقليمي إلى بنيوية النظام الدولي ذاته، الذي يبدو أنه يعاد تشكيله على وقع أقدام الدب الروسي الثقيلة في القوقاز..
وفي هذا التقرير نرصد بعضًا من الآثار السياسية التي خلفتها تلك الحرب سواء على الصعيد الدولي، أو الإقليمي، وانعكاسات ذلك على العالم العربي والإسلامي.
أولاً: على الصعيد العالمي:
على وقع المواجهة الخلفية بين الولايات المتحدة باعتبارها حليف جورجيا القوي والظهير السياسي والعسكري لها، وروسيا التي دخلت بقواتها في مواجهة مباشرة مع جورجيا، فإن نذر الحرب الباردة قد عادت لتغطي مساحة كبيرة من علاقة البلدين أمريكا-وروسيا ببعضهما.
ولن يتوقف الأمر، برأينا، على حالة من التوتر السياسي العابر، بل على ضوء معركة القوقاز وإفرازاتها العسكرية سيعيد الطرفان رؤية العلاقة المشتركة، وتوصيف القادم، الذي ستحاول روسيا تشكيله بما يضمن لها مساحة مناسبة من النفوذ الدولي، وتفرد بالقوة في فنائها القريب الذي يشكل بالنسبة لها أهمية أمنية وإستراتيجية كبرى، فيما ستسعى الولايات المتحدة إلى الحد من المكاسب السياسية والحد من التطلعات الخارجية التي يمكن أن تجنيها روسيا من هذا الانتصار والزخم العسكري.
أما على المستوى الأوروبي وعلاقته مع روسيا، فإن هذه المعركة كشفت عن حلقة الضعف في هذه العلاقة، والتي تُكبل يد الأوروبيين، وتجعلها مغلولة عن التصرف السريع، وهو اعتمادها شبه الكلي على مصادر الطاقة والغاز الروسي.
والترجمة السياسية وآثار هذه التبعية الأوروبية لروسيا في مورد حيوي كالطاقة، والذي أثر في تفاعلها مع الأزمة الراهنة، ستكون في إطار وحلبة السعي الدءوب لمحاولة ضم الدول التي تدور في الفلك الروسي جغرافيًا إلى حلف الأطلسي (الناتو).
ثانيًا: على الصعيد الإقليمي:
لاشك أن روسيا ستحاول استثمار هذا الانتصار العسكري لفرض واقع جيوبولتيك جديد في منطقة القوقاز، خاصة في الإقليمين الانفصاليين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وستكرس وضعهما الاستقلالي عن جورجيا، واقترابهما من الالتحام بروسيا.
وعلى أقل تقدير ستسعى روسيا في أي إطار تفاوضي يخص الإقليمين بأخذ الضمانات الكفيلة بعدم تكرار تجربة الغزو الجورجي مرة أخرى، وليس ببعيد أن تضعهما تحت حمايتها العسكرية المباشرة بفرض قوات نظامية روسية بدلاً من قوات حفظ السلام المختلطة، خصوصا بعد تخاذل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن تقديم أي دعم عسكري للحلفاء في هذه المنطقة..
ثالثًا: انعكاسات حرب القوقاز على العالم العربي والإسلامي:
حرب القوقاز كما أسلفنا قد يمتد أثرها وانعكاساتها السياسية على العالم العربي والإسلامي، فمع إقدام “إسرائيل” والولايات المتحدة على دعم جورجيا عسكريًا، فإن روسيا يبدو أنها على وشك الرد على ذلك بتقديم دعم نوعي في مجال التسلح لدول في المنطقة العربية، كرد على هذا الدعم الأمريكي الإسرائيلي لجورجيا.
أي أن روسيا ستسعى لإعادة تشكيل تحالف شرق أوسطي مناوئ للولايات المتحدة يضم حلفاء الكتلة السوفيتية سابقًا..، وسوريا على اعتبار وضعيتها الراهنة المناهضة للإدارة الأمريكية، وعدم إبرامها معاهدة سلام مع “إسرائيل”، وحرصها على إيجاد توازن عسكري يدعم إطارها التفاوضي ستكون المرشحة الأولى ورأس الحربة في هذا التحالف الجديد إلى جانب حليفتها إيران.
فالشرق الأوسط وفق ما نرى سيكون مجددًا مسرحًا تمارس فيه القوتان العظميان نفوذهما العسكري والسياسي، بعدما انفردت الولايات المتحدة بإدارته لحسابها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات.
الانعكاس، أو الأثر الثاني يتمثل في استغلال إيران الانقسامات في المجتمع الدولي الناجم بقوة عن هذه المعركة مع دعم روسي للمضي قدمًا في برنامجها النووي..، فالولايات المتحدة ومعها أوروبا لن تجد أمامها خيارات كثيرة في التعامل مع هذا الملف الشائك، خاصة وأن أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة قد تكون مؤممة لصالح الفيتو الروسي المعارض لأي ضاغط على إيران، أو تصعيد يقود لعمل عسكري تحت غطاء أممي.
يضاف إلى ذلك حاجة أوروبا لرافد للطاقة بدلاً من الاعتماد المطلق على روسيا، خاصة إذا تجددت الصراعات والفوضى في القوقاز وتم عرقلة إمدادات الغاز لأوروبا وتركيا من منطقة بحر قزوين، مما سيجعل الحاجة أكبر للاعتماد على إيران وما تملكه من احتياطيات، وهو ما بدأت أوروبا فعلاً في الإقدام عليه، حيث أبرمت ألمانيا اتفاقية مع إيران لإنشاء ثلاث محطات لإنتاج الغاز الطبيعي السائل، تمهيدًا لخطوة مرتقبة تسهل نقل هذا الغاز لأوروبا بصورة اقتصادية.