تلك أيام مباركة ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (سورة الحج) وفي قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (سورة البقرة).
ولقد ذكرها نبينا صلى الله عليه وسلم في حديثه: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (رواه البخاري).
وقد أخرج مسلم وأصحاب السنن عن أيام التشريق قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى».
في هذه الأيام يقبل الحجاج من بلادهم إلى البلد الحرام وقد تجردوا من ثيابهم ولبسوا ثياب الإحرام وهجروا أوطانهم متجهين إلى البيت الحرام، يبيتون في العراء وبين الجبال، الرؤوس عارية والأصوات ملبية، يستقبلون البيت ليطوفوا به سبعاً والصفا والمروة ليسعوا بينها سبعاً، نومهم عبادة، وشربهم من زمزم عبادة، وطوافهم وسعيهم عبادة، الدعاء شغلهم الشاغل، والذكر وظيفتهم المستمرة.
في مؤتمر عام يجتمعون في عرفات، وفي منى ينصبون الخيام يكبرون عند رمي الجمار، ويذكرون الله عند نحر الهدي، قد حرموا على أنفسهم صيد البر، وقص الشعر والظفر، وقربان النساء، وكل ذلك تلبية لأمر الله وطاعة له.
يحدوهم قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور لا جزاء له إلا الجنة»، دستورهم: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} (سورة البقرة)، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
ذِكرهم عند البيت {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة البقرة)، تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
يتحرون الصواب في أعمالهم ليسنوها، ويتحسسون خطاهم رغبة في تقوى القلوب لأمر الله، قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} فما هو الأثر الذي يترتب على ذلك في حال الفرد والأمة؟
إن الحاج الذي عظم حرمات الله في شعره وظفره، وعظم شعائر الله في هديه ونحره، ولبى لله عز وجل في سيره، تنقطع تلبيته عند الحرم أو عند الجمرة، فهل تنقطع تلبيته لله عز وجل بعد ذلك في سائر أمره؟
فالتلبية في الحج انخلاع من العادات والهيئات والأوطان، وحري بمن لبى نداء ربه في تقبيل حجر أو تغيير ثوب أو رمي جمار أو سعي أو طواف، حري به أن يكون ملبياً لنداء ربه في الأوامر الإلهية الواضحة الصريحة، فإذا سمع: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} قال: لبيك اللهم لبيك.
وإذا سمع: {وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: لبيك.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قال: لبيك.
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} قال: لبيك.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قال: لبيك.
وإذا سمع: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ} قال: لبيك.
إذن فالتلبية تجعل العبد لله طائعاً، وبرسوله صلى الله عليه وسلم مقتدياً، من الشعر والظفر إلى القلب، ومن المال إلى الزوجة والولد، فهيا أمة الإسلام نلبي، وهيا أمة الإسلام نضحي فإن أهم ما ينقص المسلمين هو التلبية والتضحية والله من وراء القصد.