الإثنولوجيا والأنتربولوجيا في الثقافة المغربية المعاصرة 2/2 د.عبد الله الشارف

قدر (أندري آدم) عدد المصلين في المساجد ب1% من مجموع سكان الدار البيضاء سنة 1951[1]، وفي سنة 1979 تبين لنا أن أقل من 1% من البيضاويين يقصدون المساجد للصلاة، ثم إن أ. آدم يذكر عدد المساجد في الصفحة 587 من كتابه، لكنني انتهيت (كذا بصيغة المفرد) إلى أعداد مختلفة، ففي حي الحبوس ذكر ثمانية مساجد، في حين لم نعثر إلا على سبعة فقط، بالنسبة لحي بن مسيك الذي كنت أجوبه (كذا بصيغة المفرد) مترا مترا… بالنسبة لجامع المعارف -حيث كنت أسكن أمامه- ترددت عليه ما يقرب من 180 مرة خلال سنتين وفي صلوات مختلفة، وقصدته في الساعة الرابعة والنصف صباحا خمس مرات فلم أجد أحدا، ويوم الجمعة في الساعة الواحدة والنصف زوالا: من 380 إلى 600 مصلي: كما عاينت ما يقرب من خمسين مسكينا يجلسون على الرصيف خارج المسجد…2.
(وخلافا لما يمكن أن يعتقد فإن أغلب المساجد لا تحتضن كتاتيب قرآنية، غير أن عدد الكتاتيب يفوق بكثير عدد المساجد …)3.
(إن الجمعيات الدينية في المغرب تجسد حركات أو موجات الرفض…)4.
(هناك جمعيات إسلامية كثيرة: دار القرآن، الدعوة إلى الله، الدعوة والتبليغ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جمعية البعث الإسلامي، جمعية الشبيبة الإسلامية… معظمها معترف به من طرف السلطات…)5.
(أما الجمعيات المتأثرة بكتابات الإخوان المسلمين (البنا، الكواكبي، قطب) فإن أعضاءها يكثرون في الجامعات…)6.
يتضح من خلال هذه النصوص كيف أن الأنثروبولوجيا كانت وما تزال تجسد روح وهيمنة الرجل الغربي، وكيف أن العلوم الإنسانية برمتها لا تستطيع أن تتحرر من سيطرة السياسة الأوربية والأمريكية ومن أيديولوجية الإنسان الأبيض ذي العرق الآري، وما هو مصير هذه الأبحاث وغيرها إن لم يكن استغلالها في تدعيم سياسة الغزو الفكري وتوجيه الشعوب الضعيفة والتحكم في شؤونها الداخلية؟
إن الأنثروبولوجيا التـي ورثت الاستشراق تستعمل منهجا يبدو للمستغربيـن أكثر «تقـدما» و«نزاهة» على المستوى العلمي من الاستشراق، في حين أن أمرها قد افتضح في موطن نشأتها، وهي الآن تعاني أزمة خانقة.
وأخيرا، وعلى سبيل الاستنتاج، ما هو الفرق مثلا بين شخـصيـة (أندري آدم) الباحث الأنثروبولوجي الاستعماري وشخصية محمد توزي الباحث الأنثروبولوجي المغربي المعاصر؟
بكل صراحة لا فرق بينهما سوى أن الأول فرنسي والثاني مغربي، أما على مستوى الوظيفة والرسالة الأنثروبولوجية الاستعمارية، فهما على قدم المساواة وإن كان الفرنسي أستاذا والمغربي تلميذا! ولما كان من شأن التلميذ النجيب تقليد الأستاذ والاقتـداء به قام باحثنا الأنثروبولوجي، بكل وفاء وإخلاص، باقتفاء أثر أستاذه، وهيأ هو الآخر دراسة ميدانية إحصائية حول مساجد الدار البيضاء، متتبعا خطـوات روادها من المسلمين الأبرياء، متجسسا عليهم في صلاتهم وعبادتهم، ويقول م. توزي منبها إلى ملاحظة “قيمة” ـ ومعبرا عن بلادة الأنثربولوجيين وهم يقدمون ثمرات أعمـالهم لأصحاب القوة والسلطة من المستعمرين والمتكبرين ـ «وإذا أخذنا بعين الاعتبار تضاعف عدد سكان الدار البيضاء، فإن السمة البارزة فيما يتعلق بالصلاة، هي الانخفاض الجلي لعدد المترددين على المساجد بالمقارنة مع عددهم انطلاقا من بحث أندرى آدم في سنة 1953(!)»7.
منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي أخذت صورة الإسلام تشمل، في نفس الوقت، واقع التخلف الهمجي من ناحية، ورمز القوة الهدامة والمهددة لبنيان الحضارة الغربية ولدورها في المستعمرات، خصوصا عبر الحركات الوطنية التي تبوأ بعض العلماء والمصلحين فيها موقع الصدارة، من ناحية أخرى، بذلك مر البحث الأنثروبولوجي من إنتاج خطاب إيديولوجي حول إسلام وهمي -بهدف إنعاش الافكار المسبقة والقوالب الغريزية لدى الأوربيين حول الإسلام دينا وثقافة- إلى خطاب شبه سياسي حول عدم التجانس بينه وبين حضارة الغرب وقيمهن بغرض إفراز عداء سياسي عميق ضد الحركات الوطنية المسلمة، وبذلك تكون الأنثروبولوجيا منسجمة تماما مع استراتيجية السلطة السياسية والعسكرية.
والواقع أن هناك من الشواهد ما يبرر موقف التشكك الذي يقفه العلماء الشبان الآن من مسألة موضوعية البحث في العلوم الإنسانية، ذلك أن الحكومات كثيرا ما تتدخل في توجيه البحوث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحدد موضوعات معينة بالذات تعطيها أولوية مطلقة، وتطالب العلماء بدراستها قبل غيرها من المشاكل التي قد تكون أقرب إلى ميول هؤلاء العلماء، كما أن تمويل معظم الدراسات والبحوث في الوقت الحاضر يأتي من مصادر حكومية أو شبه رسمية على العموم.
اعتماد العلماء في هذه المجالات على الهيئات الرسمية يفرض بلا شك قيودا معينة على آراء الباحثين والعلماء في المشكلات التي يدرسونها، وكثير من العلماء والباحثين في مختلف الدول هم في الحقيقة مجرد “موظفين” في الإدارات الحكومية، يقتصر نشاطهم العلمي على دراسة المسائل التي تعينها لهم الدولة، أو الإدارة الحكومية التي ينتمون إليها. وثمة فارق كبير بغير شك بين أن تسهم الحكومـات والشركات في الإنفاق على البحوث التي يقوم بها العلماء حسب رغباتهم الشخصية وبدون تدخل من تلك الحكومات والشركات من ناحية، وأن تقوم هيئة معينة بتحديد مشكلة معينة وتختار لدراستها باحثين معينين تقوم بالإنفاق عليهم أثناء مدة البحث والدراسة، فمعظم الدراسات والبحـوث التي تدخل في هذه الفئة الأخيرة إنما تجرى لخدمة أغراض معينة، ولهذا فهي تخضع في كل خطوة من خطواتها لتدخل تلك السلطات ورقابتها وتوجيهها، مما قد يؤثر في النتائج التي تصل إليها، بل إن الكثير من هذه الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والسياسية والاقتصادية يتم بتوجيه إدارات المخابرات في الدول المتخلفة.
لقد كانت الحكومات الاستعمارية تستعين بمن تسميهم بالأنثربولوجيين الحكوميين، لإجراء دراسات خاصة بين القبائل والشعوب الخاضعة لحكمها، وجمع معلومات حول موضوعات معينة بالذات، لكي تسترشد بها في سياستها وإدارتها لتلك المجتمعات بطريقة لا تتعارض مع القيم والنظم التقليدية السائدة هناك، وبذلك كانت الحكومات الاستعمارية تتمكن بمعونة هـؤلاء الأنثروبولوجيين الحكوميين من تفادي كل ما من شأنه إثـارة تلك الشعوب، فلا تطالب بحريتها واستقلالها، ويعتبر ذلك العمل أيضا في نظر العلمـاء الثائرين المتمردين منافيا للأخلاق، صحيح أنه في بعض الأحيان كان يسمح لهؤلاء الأنثروبولوجيين الحكوميين بالقيام بالدراسات التي يرغبون هم أنفسهم في إجرائها والتي تتلاءم مع ميـولهم أو تجيب عن بعض الأسئلة العلمية التي تدور في أذهانهم، وكذلك فحص بعض النظم التي تهم الحكومات بشكل مباشـر مثل النظام الديني أو القرابي، أو الآداب والفنون الشعبية والأساطير ومـا إلى ذلك، ولكن هذا كان يعتبر في العادة عملا جانبيا يقومون به حين يفرغون من عملهم الأساسي.
ومن الطبيعي أن ينصرف اهتمام الأنثروبولوجي إلى الموضوعات الأنثروبولوجية بغض النظر عما إذا كانت لها ـ أو لم يكن لها ـ أهمية عملية على الإطلاق، كذلك من الطبيعي أن تكون حكومات المستعمر مهتمة بالمشاكل العملية بغض النظر عن قيمتها النظرية، وقد نشأت صعوبات وإشكالات كثيرة حول هذه المسألة، ومن شأن هذا كله أن يلقي ظلالا كثيفة على ادعاء الكثير من المشتغلين بالعلوم الإنسانية بأنهم يتوخون الموضوعية في دراساتهم وبحوثهم، في الوقت الذي يقومون فيه في الواقع بأبحاث موجهة ومغرضة ومتحيزة، وتهدف إلى تحقيق أهداف معينة، حددتها لهم هيئات لا تتصل بالعلم ولا بموضوعيـة البحث من قريب أو من بعيد، ولذا كان كثير من العلماء المتمردين يرون في دعوى الموضوعية العلمية في العلوم الإنسانية نوعا من النفاق العلمي الذي يجب فضحه وكشف النقاب عنه.
……………………………………………………………..
1 ـ André Adam, Casablanca; essai sur la transformation de la société marocaine au contact de l’Occident, Paris CNRS, CRESM. Paris 1953.
2ـ «Le Maghreb Musulman en 1979» p. 241.
3 ـ نفس المرجع ص 242.
4 ـ نفس المرجع ص244.
5 ـ نفس المرجع ص247.
6 ـ نفس المرجع ص248.
7ـ المرجع السابق ص 240.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *