تختلف أحوال قلوب العباد باختلاف رتب إيمانهم، فالإيمان محرك القلوب ومنعشها، كلما وقر واستقر زاد القلب ضياء ونورا، وكلما خف وارتفع اسودّ القلب وأظلم، ومسألة تقلب القلوب واختلاف أحوالها خصيصة بشرية ميز الله تعالى بها قلوب العباد على اختلاف جنسهم وأعمارهم وصفاتهم، «…والقلب: مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط… وقال بعضهم: سمي القلب قلبا لتقلبه، وأنشد:
ما سمي القلب إلا من تقلبه **** والرأي يصرف بالإنسان أطوارا»
اللسان:12/170-171.
قلب متقلب غير مستقر
وإن كان ينطبق عليه ما اتصفت به قلوب البشر من تقلب وعدم استقرار في مستوى إيمانها ودرجة تقواها، إلا أن الاستعانة بالله عز وجل في طلب الثبات والدعاء بالاستقرار على الطاعة ولزوم الدين أمور يتوجب على المؤمن الالتزام بها والمواظبة عليها وعدم إغفالها، ففي الأثر، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: {يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ}، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ تخافُ علينا وقد آمنَّا بِكَ وصدَّقناكَ بما جئتَ بِهِ، فقالَ: إنَّ القُلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ يقلِّبُها» صحيح ابن ماجة:3107.
ويتفق مع الحديث السابق ما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم من شدة وسرعة التقلب الذي سيصيب الناس في عصر الفتن، لا يدرك الإيمان قلب الرجل مساء حتى ينقلب كفرا في الصباح والعكس بالعكس، وهذه صورة نبوية تصف حال كثير ممن نعايشهم في زماننا هذا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا» مسلم: 118.
ولن تسلم يوم القيامة قلوب طائفة من تقلّبٍ لهول ما يرونه من عذاب بعدما استيقنته أنفسهم، والمؤمن من يفطن إلى هذا المشهد ويستحضر صوره، فيرتجف قلبه خوفا ووجلا من فزع يومئذ، «رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» النور:37.
«…فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج… وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك… وقيل: تقلب على جمر جهنم… وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة…» الجامع لأحكام القرآن:12/262.
قلب مظلم أسود
يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بليغ أحوال القلوب في تقلبها بين النور والظلام، بين البياض والسواد، بين الصفاء والكدر، بين الاستقامة والنكس، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نَكَتَتْ فِيهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ لَهُ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مِرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجْخِيًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» مسلم:144.
قلب زائغ
وتأتي حاله تلك بعد تبين الهدى وتبصر الرشاد، لوقوع مرض قلبي في الفؤاد، أو لتمكن فتنة ظاهرة أو خفية منه، «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» آل عمران:7.
ويصدق الآية ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ما مِن قلبٍ إلَّا بَيْنَ إصبَعَيْنِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ إنْ شاء أقامه وإنْ شاء أزاغ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: {يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دِينِكَ}» صحيح ابن حبان:943.
فالوقاية من زيغ القلب تكون بالدعاء والتضرع لله عز وجل في السر والعلن، «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» آل عمران:8.
قلب صاف مضيء
وهي حال تقدم وصفها في حديث عرض الفتن على القلوب، يصير على هذه الحال قلب أنكر ما يعترضه من فتن فلا تجد له منفذا ولا سبيلا، وإن حدث وصادف ما يسئ لم يصب من ضيائه شيئا، وانزاح غشيانه انزياح العارض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ القلُوب قلْبٌ إلاَّ ولَه سَحَابَة كَسحَابَة القَمَر، بينَا القَمَر مُضيء إذْ عَلَته سَحَابَة فَأظلَم، إذْ تَجلَّت عَنهُ فَأضَاء» صحيح الجامع: 5682.
قلب معلق بالمساجد
المواظبة على الصلاة في جماعة المسجد من علامات الإيمان، وحب بيوت الله وتعلق القلوب بها من أجل الطاعات وأرفع القربات، وهي صفة حميدة على سلامة القلب واستقامة حاله، وهذا فضل من الله تعالى ينعم به على من يشاء من عباده، فيا سعادة من نال هذا الحظ و يا خسارة من حُرمه في الدنيا والآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: الإمامُ العادلُ، وشابٌّ نشأ في عبادةِ ربِّه، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلان تحابَّا في اللهِ اجتَمَعا عليه وتفَرَّقا عليه، ورجلٌ طلَبَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ، فقال إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصَدَّق، أخفَى حتى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه، ورجلٌ ذَكَر اللهَ خاليًا، ففاضَتْ عيناه» البخاري:660.
قلب مطمئن
وهو قلب ذاق حلاوة الإيمان وبلغ من درجات الرضا والتسليم بما قدره الله وقضاه أعلى المراتب، وأدرك من منازل التوكل على الله تعالى واحتساب الأمر له أرفع المنازل، فطابت نفسه بما قسمه الله عز وجل له، واستقبلت روحه ما افترضه الله تعالى عليه من تكاليف وأحكام استقبال العبد الطائع المحب المطمئن، قيل للحسن البصري: «ما سر زهدك في الدنيا؟ فقال: علمت بأن رزقي لن يأخذه غيري فأطمأن قلبي له، وعلمت بأن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن أقابله على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله».
ووسائل تحقيق الطمأنينة القلبية ومفاتيحها معلومة بالوحي الرباني والهدي النبوي، منها ذكر الله عز وجل وقراءة القرآن وتدبره «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» الرعد:28، ومنها نزول المدد من الله عز وجل وأصله وسببه الدعاء والاستغاثة به تعالى، «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الأنفال: 9-10، ومنها لزوم الاستغفار، «من لزِمَ الاستغفارَ جعلَ اللَّهُ لَه من كُلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ورزقَه من حيث لا يحتسب» ابن ماجة: 3809، (فيه ضعف).
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
والحمد لله رب العالمين.