والنموذج الرابع يتمثل في أن ابن رشد انتقد الأشاعرة في أن إثباتهم للصفات قد يُؤدي إلى تعدد القدماء، بمعنى أنه قد يُؤدي إلى تعدد الآلهة، ونسي نفسه بأنه هو شخصيا قال فعلا بتعدد الآلهة، عندما قال: إن العقول المفارقة أزلية عاقلة، وذات طبيعة إلهية، ومُتصرفة في العالم، أليس هذا قول بتعدد الآلهة، وهو تناقض واضح لا يستقيم وانتقاده الذي وجهه إلى الأشاعرة؟!.
والنموذج الخامس يتمثل في أن ابن رشد قال: إن الله علة غائية للعالم، وأنه – أي العالم- أزلي بالضرورة بالنسبة لله، ثم وصف الله بأنه موصوف بالحكمة في خلقه، فأية حكمة له في العالم، بما أن العالم أزلي بالضرورة، والله علة غائية له؟! فلا معنى لوصف الله بالحكمة في خلقه، والعالم ليس من خلقه، فهذا تناقض بيّن!
والنموذج السادس يتمثل في أن ابن رشد قال: إن الله مُتصف بالإرادة والاختيار، وقال أيضا: إن العالم أزلي بالضرورة، وأن الله علة غائية له، لا علة فاعلة ولا مُبدعة له، فأية إرادة واختيار يبقيان له؟!
والنموذج الأخير يتمثل في أن ابن رشد قال: إن في الشرع مالا تدركه العقول بسبب قصور العقل الإنساني عن إدراكه، وأنه (لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يُعتد به)، لكنه ناقض نفسه عندما قال: إن الفلاسفة هم الراسخون في العلم، الذين خصّهم الله بالذكر في القرآن الكريم، فهم الذين يعلمون تأويله، وهم أهل البرهان واليقين، وزعم أيضا أن فلسفة أرسطو هي الحق، وأن نظره فوق نظر جميع الناس!!.
وأما الأمر الثاني فمفاده أن ابن رشد – في موقفه من الصفات- وصف الله تعالى بصفات لم ترد في الشرع، ومعانيها ناقصة، ولا تليق بالله سبحانه وتعالى، منها أنه وصفه بالمحرك الذي لا يتحرك، والمبدأ الأول، والعقل الأول الذي لا يعقل إلا ذاته، فالله تعالى لم يصف نفسه بأنه عقل، ولا مبدأ أول، ولا محرك، وإنما وصف نفسه بأنه خالق، وبديع، وبارئ، ورزاق، ورحيم، وقدوس، وأول، وآخر… وما قام به ابن رشد هو عمل خطير، يُؤدي إلى تحريف الألفاظ والمعاني الشرعية من جهة، وإبعاد المصطلحات الشرعية وإحلال محلها المصطلحات الأرسطية المشائية من جهة ثانية.
والأمر الثالث مفاده أن ابن رشد كما خالف الشرع والعقل في موقفه من الصفات الإلهية، فإنه خالف أيضا مذهب السلف في صفات الله تعالى، فقد تبيّن أنه – أي ابن رشد- أوّل الصفات على طريقته التحريفية انطلاقا من خلفيته الأرسطية، وهذا مُخالف لما كان عليه السلف الأول من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، فإنهم اختلفوا في مسائل الفقه كثيرا، لكنهم لم يختلفوا في النصوص المتعلقة بصفات الله تعالى، مما يعنى أنها كانت بينة لديهم لا لُبس فيها، بيّنها الشرع بيانا كافيا شافيا، ولم تكن لديهم من المتشابه، وبمعنى آخر أنهم أثبتوا لله تعالى كل الصفات التي أثبتها لنفسه، من دون تأويل ولا تعطيل، ولا تجسيم ولا تشبيه، وإنما هو إثبات وتنزيه، من دون إدراك للكنه ولا للكيفية، واحتجاجنا بمذهب السلف- في انتقادنا لابن رشد- له مبرره الشرعي والعقلي المقنع، لأن السلف الأول أخذوا دينهم – أصولا و فروعا- عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، الذين أخذوا دينهم -هم أيضا- عن رسول الله -عليه الصلاة و السلام-، والله تعالى قد زكاهم في آيات كثيرة، وأمر باتباع سبيلهم، كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) سورة التوبة: 100، و(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) سورة النساء: 115، وعليه فإن مخالفة ابن رشد لمذهب السلف، هو من مظاهر انحرافه الفكري، وبعده عن المنهج الشرعي والعقلي الصحيح.
والأمر الرابع يتعلق بانتقادات وجهها شيخ الإسلام ابن تيمية لابن رشد، من المقيد الاطلاع عليها والانتفاع بها، منها أنه جعله أسوأ حالا من المعتزلة في الصفات، لأنه كان على طريقة إخوانه الفلاسفة الباطنية في نفي الصفات، وموقفه منها ينتهي إلى التعطيل المحض، وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهذا نفس الأمر الذي انتهى إليه الاتحاديون القائلون بالحلول ووحدة الوجود، وأما زعمه بأن طريقة إخوانه في نفي الصفات هي الطريقة البرهانية، فالأمر ليس كما زعم، فإن مسلكهم أضعف من مسلك المعتزلة، مع أن كلا من مسلكيهما فاسد، ومنهجه لا يُوصل إلا إلى الجهل والحيرة والضلال.
ومع انتقاده الشديد له، فقد أنصفه عندما ذكر أن مقولة ابن رشد في الصفات أحسن حالا من أصحاب النفي المحض للصفات، كالجهمية والقرامطة، ومنحرفي المتفلسفة كالفارابي وابن سينا، وجعله من مقتصدة الفلاسفة كأبي البركات البغدادي، ففي قولهما من الإثبات ما هو خير من هؤلاء النفاة، فالمشهور عنهما إثبات الأسماء الحسنى وأحكام الصفات.
وقوله: المشهور عنهما، يعني – بالنسبة لابن رشد- ما أظهره في كتبه العامة، ولا يصدق ذلك عليه في كتبه الخاصة، التي صرّح فيها بنفيه للصفات، كصفة الإرادة والاختيار، والعلم، ولا أدري هل وصلت هذه الكتب – أي الفلسفية- إلى الشيخ ابن تيمية و أطلع عليها أم لا؟، فإني لم أعثر له على ذكر لها في مؤلفاته.
وختاما لهذا المبحث يتبين أن ابن رشد أخطأ في معظم ما قاله عن الصفات الإلهية، وأنه كثيرا ما كان فيها متناقضا، ومخالفا للشرع والعقل معا، علما بأن حقيقة موقفه من الصفات هو نفيها باستخدام التأويل التحريفي انطلاقا من خلفيته الأرسطية المشائية، وانتصارا لها.