«النبوة» في زمن العولمة ذ. طارق الحمودي

جعل البخاري في صحيحه للتحقيق مفهوم النبوة كتابا سماه «أحاديث الأنبياء» وهو كتاب حافل ومليء، كما جعل من قبل كتاب «بدء الوحي» أول كتاب في صحيحه، ومن قبل كان أول إنسان نبيا، وربما كانت هذه النبوة مما لم تعلمه الملائكة عن ذلك المخلوق الذي رأت فيه سافكا للدماء ومفسدا في الأرض، فالنبوة إذن أصل في تاريخ الإنسان، ولا تزال وستبقى حتى تقوم الساعة، بل وما بعد قيامها أيضا.
النبوة نعمة يمن الله بها الله تعالى على من يشاء، ولا يبلغها أحد بعلمه ولا كشفه ،ولا يستحقها باستعداد ولايته كما يقول ابن حجر في الفتح، خلاف طائفة من الصوفية التي تعتقد أنها مكتسبة، أو أنه يمكن موازاتها عن طريق الكشف الغنوصي، وخلاف الفلاسفة الذي زعموا أنهم يستطيعون الأخذ من حيث يأخذ النبي عن طريق التصوف العقلي البالغ بهم إلى نوع اتصال بالعقل الفعال على اصطلاحهم!
كانت الملاحدة تعرف أنه لا قبل لها بمواجهة حقائق الربوبية والألوهية، فهي باهرة قاهرة، ولذلك حاولوا أن يتوسلوا إلى الطعن فيها بالنيل من النبوة والأنبياء، إذ هي الواسطة بين السماء والأرض، فإن هم أفسدوها قطعوها، ولا يزال هؤلاء إلى اليوم، ينالون من الأنبياء ومفهوم النبوة عسى أن يكون ذلك ذريعة لإبطال حق الله تعالى على الإنسان بربوبيته وألوهيته، وقد رأوا بعد ذلك أن الناس لا يقبلون مثل ذلك، فنزلوا درجة، وتوسلوا إلى الطعن في النبوة أولا بالطعن في أصحاب الأنبياء، حتى إذا تمكنوا من الطعن في الأنبياء،عادوا يتوسلون بذلك إلى الانتصار للإلحاد!
تقوم عقيدة الإلحاد القديمة والحديثة على الزعم بقدرة العقل على الاستقلال في تدبير أموره الدنيوية، وبدء من طوائف من البراهمة الهنود، ووصولا إلى دعاة البقل والتزوير، لا تزال دعوات الأنسنة قائمة على ساق الجد في محاولة لتحييد النبوة، ثم تحييد الله تعالى عن حياة الناس، وهذا رغم ما يبدو عليه نوع من البؤس الذي تعيشه العلمانية والدهرانية المعاصرة كما هو عنوان كتاب لطه عبد الرحمن.
لقد صار خبر النبوة ووجودها التاريخي وتأثيرها الثقافي متجاوزا لمحاولات التشكيك البئيسة، فوجود الأنبياء اليوم مقطوع به بالتواتر، ولم يعد بالإمكان التشكيك فيهم، لكن النيل منهم بالطعن فيهم، فإن كانت سوق التحريف التي طالت التوراة خاصة من طرف محرفين حمقى وجهلة كما يصفهم ابن حزم في الفصل قد قامت على محاولات الطعن في الله تعالى والأنبياء معا كما هو معروف، ومثلها الإنجيل الذي جعلوا فيه الله تعالى ينزل في سورة إنسان حتى يسهل الطعن عليه بوصفه بصفات النقص كالضعف والموت، أي أن جزء من مقاصد التحريف انطوى على النيل من النبوة قبل الربوبية والألوهية، ولا يزال الفكر الباطني المعاصر مصرا على ذلك، عن طريق الفن بأنواعه، والإعلام وأشكاله، لأنهم يعلمون أن النبوة أكبر عدو لهم، وأقوى مانع لهم من إقامة سلطان إبليس على الأرض، ولأنها الضمان الوحيد لأمن دائم وسلام مستمر وطيبة حياة في الدنيا والآخرة للجنس البشري، لقد علموا أن النبوة لن تدع لهم محلا يلغون فيه ولوغ الكلب في الإناء ينجسه، فقد كان الأنبياء يسوسون الناس، ويهدونهم، واليوم يقوم بذلك تكملة لرسالتهم الحضارية أتباعهم من أهل العلم والإيمان الذي ما عذبوهم فنشروهم بالمناشير وقتلوهم كما قتلوا أنبياءهم، وضيقوا عليهم قديما وحديثا إلا لأنهم أتباع الأنبياء ونوابهم.
لقد حاول أعداء النبوة أن يمنعوا وصول الهدى منهم إلى الناس، فسبوهم وقتلوهم وعذبوا أتباعهم كي ينفضوا عنهم، ثم رموهم بالنقائص كالجنون والسحر وغيرها، بل زعموا أنهم كانوا يكذبون على أتباعهم، بل وصل بهم الأمر إلى رميهم بالجهل كما تجده في مقدمات «درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية، ولا تزال محاولات إبعاد الناس عن سنن الأنبياء ومنهجهم قائمة، عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم خاصة، تحت دعاوى مختلفة، بل بلغ الأمر ببعضهم كما هو حال عبد المجيد الشرفي التونسي إلى الزعم بأن معنى «ختم النبوة» الاستغناء عنها بالعقل الجماعي بعد وصوله مرتبة النضج الفكري، باعتبار أن الختم كان ختما على رتاج باب النبوة فلا تخرج بعدها إلى حياة الناس أبدا…!
ينبغي أن ينتبه شبابنا إذن إلى أن الأمر يرجع كله إلى مفهوم «النبوة»، فأول عداوة كانت من إبليس، كانت لنبي، وكذلك استمر الأمر، وكذلك سيبقى، فهي اليوم معركة عالمية بين أتباع الأنبياء وبين أعدائهم، والشواهد على هذا كثيرة ومتنوعة، وليس هذا موضع تفصيلها، ويكفي مراجعة قصصهم القرآني، وما ورد عنهم وفيهم مثل الذي في صحيح البخاري، فلينظر إلى ذلك نظر تفحص وتدبر واستخلاص، ثم لينظر العاقل في أي جهة يكون، وهذه مقدمة، وربما يكون لنا وقفات مع تفاصيل أخرى عن «النبوة» في حلقات أخرى… إن شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *