الجمع الأريب في «زاد الأديب» لطيفة أسير

درجنا على سماع مقالة: “اختيار الرجل وافد عقله”، وقيل: “لا بل مبلغ عقله”، ونُقل عن الخليل بن أحمد قوله: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام؛ لذا فإن المصنفات التي تحوي بين دفتيها مختارات من كتابات الآخرين، لا تكاد تخلو من إبداع ينم عن ذائقة المؤلف وفراسته وقدرته على التمييز بين الغث والسمين.
وهذا ما يلفت انتباه القارئ لكتاب “زاد الأديب” للكاتب المغربي ربيع السملالي. إذ هو عبارة عن مقالات صادفها الكاتب خلال مسيرة مطالعاته الكثيرة، فآثر أن يجمع خرزاتها في عقد واحد متناغم ومتآلف يشد بعضه بعضا. الجميل في هذا المؤلَف أن المؤلِف كان حريصا على انتقاء المقالات من المجلات، وهي مصدر أدبي أهمل الكثير من القراء تصفحه، وإن فكر المرء اليوم واقتنى مجلة، فإنما تهفو نفسه لما فيه تسلية أو مواضيع سهلة الهضم لا تحتاج لكثير تفكير، لذا أراه موفقا في هذا الجانب.
كما كان منصفا حين ارتأى اختيار مقالات لأدباء عاشوا في الظل، بعد أن تجاهلهم الإعلام رغم جودة إبداعاتهم، بدل الحديث عن مقالات لجهابذة الأدب، مما ينفي عنه شبهة السعي للترويج لكتابه، أو التعلق بالعظماء ليصير كتابه عظيما.
وبقدر حرصه على تنوع مقالاته بقدر اهتمامه بتنوع جنسيات كتابها، إذ انفتحت ذائقته على أدباء من أقطار عربية مختلفة كالمغرب وتونس والجزائر والعراق ومصر واليمن، ولعل هذا الانتقاء لم يكن عشوائيا بل أخاله متعمدا، يوجه من خلاله الكاتب رسالة خفية مفادها أن الأدب لغة إنسانية لا تعترف بالحدود ولا تؤمن بالحواجز الوهمية. تنظيميا تم تقسيم الكتاب لفصول ثلاث : أولها عن القراءة وثانيها عن الكتابة وآخرها عن الأدب.
بما أن هاجس انخفاض مؤشر القراءة في أمة (اقرأ) بات يؤرق كل مسلم غيور على دينه وأمته، فلا تعجب إن طالعتك أول مقالة في الكتاب بـ(اقرأ) للكاتب المغربي عبد الجبار الغراز،، مقالة صيغت بأسلوب أدبي جميل تستنهض الهمم الراكدة وتوقظ العقول الغافلة حري بكل متكاسل أن يطالعها كلما فترت همّته. توالت بعدها المقالات تترى تكشف مقام سيد المعرفة (الكتاب) وقيمته في حياة الإنسان عامة والكاتب خاصة، وعند الغرب بوجهه المشرق، وعند العرب اليوم بحضوره الباهت. مقام لم تستطع الثورة الإعلامية النيل منه رغم إغراءاتها الشديدة، إذ كان وسيظل -كما قال صالح إبراهيم الحسن-: (الوعاء المعرفي السليم للباحث الجديد، والبوصلة التي تنير دروب المتعطشين إلى المعرفة). وفي كثير من المقالات ستقف -أخي القارئ- على تلك العلاقة الجميلة بين الكتاب والقارئ خاصة في مقالة (حوار مع الكتب)، ستغوص بلا ملل في يم فوائده ليزداد عشقك لهذا الجليس الأمين، فتُقبل عليه بنهَم. وما أبهى أمير تاج السر في (أصدقاء الكتب) وهو يحكي عن هذه العلاقة الحميمة والتي جعلته كالمعشوقة التي يرحل لأجلها القارئ حيثما حطت رحالها ليظفر بها ويأنس بقربها، فتراه يرفرف بجناحي شوقه بين معارض الكتب باحثا عن ضالته.
ولأن الكتاب يغدو أحيانا كالمعشوق، فإن إعارته تغدو ضربا من ضروب المستحيل، وهذا ما عكسته مقالة (إعارة الكتب من منظور عاشق) لربيع السملالي، والتي ذكر فيها كلاما نفيسا عن حكم الإعارة في عرف عشاق الكتب. وبين (تأملات في صروف الحياة) و(وراثة الكتب) رحلة مغايرة لمسار الكتاب بعد رحيل عشاقه، ومصير كتبهم حين تتقاذفها رياح الإهمال والشطط في تدبير كنوزها.
كما يوجد بهذا القسم مقالة وددتُ لو غدت دستور حياة لكل أسرة، وثيقة تُسلّم لكل ربّ أسرة ليضعها نصب عينيه وهو يقتني حاجيات أسرته، إنها مقالة (القراءة في الأسرة)، بها خطوات عملية لتنمية فعل القراءة داخل الأسرة بعيدا عن السفسطة والكلام الخيالي أنصح بمطالعتها. كما تجد أيها القارئ مقالات تبين لك (كيف تقرأ كتابا وتستفيد منه) و(ماذا ولماذا وكيف نقرأ؟؟) وبه كذلك فصل ماتع عن المطالعة للشيخ الأديب الأريب الطنطاوي.
ولأن الكتاب عند البعض أضحى منتوجا تجاريا أكثر منه إبداعا فكريا، كان من اللباقة إدراج المؤلف مقالة قيمة جدا لواسيني الأعرج تتحدث عن موضوع قرصنة الكتب والتي لم تعد (فعلاً ثانويًا في الوطن العربي للأسف، أو فرديًا معزولاً، لكنها أصبحت محنة حقيقية للناشر والكاتب معًا).
أما فصل الكتابة فقد أفدتُ منه أمورا عديدة وددتُ لو يطلع عليها كل كاتب أو ممارس للكتابة. إذ به مقالات جمّة تُعنى بالكتابة وماهيتها والغاية منها، وتتطرق للكثير من القضايا التي لها ارتباط بهذا الشأن، كالحديث عن وضع الكاتب الذي يثير الشفقة في مجتمعٍ آخرُ اهتماماته القراءة وما يدور في فلكها، وقد عالج الكاتب المغربي إدريس الخوري بطريقة ساخرة هذا الوضع في مقالته (معنى أن تكون كاتبا) قرر في نهايتها أن الكاتب لا اعتبار له ككائن مبدع فهو مجرد (كائن خرافي، فولكلوري، درويش مسكين، لا أحد يفهمه، لا الدولة ولا المجتمع، ولا العائلة أيضا)، وعن ذات الحالة المحبطة تحدث الروائي السوداني أمير تاج السر في مقالته (حين يكتب المبدع) حيث قال: (وسيكون إحباطًا أكبر، حين يرى المبدع نفسه يشيخ، وتشيخ كتابته معه، وهو ما يزال يسكن في ربع بيت، ويتنقّل معلّقا في باصات النّقل العام، وأنّ عددًا من الذين أتوا بعده، قد عبروا إلى الأضواء بكتاب واحد أو كتابين، وأصبحت كتبهم متوافرة حتى للقارئ الغربي، بعدد من اللغات. وهو ما يزال يجاهد ليقرأه الناس بلغته فقط).
لا غرو إذن أن يكون الحزن وقود الكتابة وتوأمها حتى قيل (إن المعاناة والألم والحرمان تسهم في إذكاء وهج الإبداع لدى هذا الكاتب أو ذاك)، وحول هذا دندن مقال (دموع الكاتب حبر الكتابة).. ويا له من مقال!!
و قد أشارت الكثير من المقالات لأهمية الكتاب في حياة الأمم باعتباره أقدم وسائل الاتصال البشري، والمصدر الرئيس للمعرفة. وبين سطور الكثير منها نصائح وتوجيهات لمن ينشُد الكتابة الملتزمة والهادفة، كما في مقالة الأديب ربيع السملالي (كيف تصبح كاتبا نافعا لأمته) ومقالة (لذة الكتابة) للقاصّ الفلسطيني رجب أبو سرية.
وقد استمتعتُ كثيرا وأنا أطالع ما تناولته بعض المقالات من حديث عن جدوى الكتابة وطبيعة العلاقة بين شخصية الكاتب وبيئته وكذا علاقة الكتابة بالكلام، وراقني ما حوته من إشارات كثيرا ما نغفل عنها نحن من سلك درب الكتابة طوعا أو كرها.
وعن معاناة الكاتب مع الكتابة كان الحديث ذا شجون في مقالات شتى، بدءا بمداهمة الفكرة خاطر الكاتب، ثم السعي لاقتناصها قبل انفلاتها وتمنعها، مرورا بصياغتها ومحاولة بنائها بناء متكاملا، وانتهاء باختيار عنوان مناسب لها، وصدقت الروائية والشاعرة الأميركية أو رسولا كي ليغوين حين قالت: (الكتابة لا تحدث ضجيجاً بل آهاتٍ). أما نجوم الوهم الذين صنعتهم دوور النشر التجارية ولمّع الإعلام صورتهم فستجد الإشارة إليهم في مقالة راقية وقيمة للكاتبة التونسية آمال المختار بعنوان (أنا لا أكتب ولكن أتجمّل).
لكن بما أننا أمة لا تقرأ، فماذا تعني حقا (الكتابة في زمن تضاؤل القراءة) إشكالية عويصة تستحق عناء البحث عنها بهذا المقال الراقي للشاعر والكاتب اليمني د. عبد العزيز المقالح. ومن غريب ما ستصادفه (أفكار للبيع) للمتألق دوما أمير تاج السر، والذي اقتنص الأديب ربيع السملالي الكثير من مقالاته، وكان موفقا في اختياراته.
مسك ختام الفصل كان مقالة قيمة للأستاذ ربيع السملالي بعنوان: (علماء ماتوا وهم يكتبون ويقرؤون) وضحت حجم الهوس بالكتابة والارتباط العميق بها إلى آخر رمق في الحياة، حكايات سردها الكاتب لبعض العلماء المسلمين الذين ظلوا مع المحبرة إلى المقبرة، فيها أيضا شحذ للهمم. وإن شئت أن تقف على سمو مقام الكاتب فلا تنسَ أن تعرج قبل ذلك على مقالة (الكاتب الحالم) لعذاب الركابي، ففيها ما يسري عنك أخي الكاتب.
الفصل الأخير من الكتاب كان عن الأدب، وقد صادف قراءتي له صفعة تلقيتها كما تلقاها كل غيور عن الأدب، ونحن نشاهد هذا العبث يطبع وينشر ويعرض في معارض الكتاب: “هبة يا هبة، إنتِ الحكاية الطيبة، إنتِ اللي عمري فداكِ كله ونفسي تبقي قريبة، بعشق عنيكي الملهبة ما كفاية جمال بقى يا هبة”، اندحار وهوة سحيقة هوى إليها الأدب حين حمل مسؤوليته من لا يفقه كنهه ولا يملك أدوات خوض غماره. ولعل ما ذكره الكاتب منصف المزغي في مقالته (تجربة إهداء الكتب) يكشف بعض النقاب عن هذه المهازل، حيث قال:(أمّا تجربة طبع كتاب على الحساب الخاص (وقد بات يخوضها الكاتب العربيّ مضطرًا) فقد صارت ميسورة بعد ثورة عصر الإعلام التي يسّرت الطباعة، وسهّلتها وسرّعت من نسقها. صار من يملك ثمن هاتف ذكيّ متطوّر أو ثلاّجة عائلية، قادرًا على أن يصبح من أهل الكتاب والكتابة.
– وباقي الشروط؟
– يكفي أن يسلّم أوراقه التي رفض أكثر من ناشرٍ محترم أن ينشرها بعنوان كتاب، فيدفع المبلغ إلى أول ناشر رصيف يتكفّل بوضع اسمه على وجه الكتاب وكأنّه يمنحه وجاهة مفقودة).
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا صار الأدب درب من لا درب له؟ ولمَ تجرأ على الكتابة كل من لا ناقة له ولا جمل في بحور علمها؟ وهل الأدب شيء تافه حتى خاض غماره من لا يتقن حتى لغته الأم؟ ولا يحمل أية ذرة مسؤولية عن قيم أمته؟ أسئلة ستجد أجوبة عنها وزيادة بهذا الفصل، الذي بدأه الكاتب بسؤال جوهري في مقالة رقيقة بعنوان (ما فائدة الأدب؟) وثناها بمقالة في نفس السياق للكاتبة والشاعرة البحرينية بروين حبيب تؤكد سمو مقام الأدب ورقي رسالته النبيلة.
والملاحظ في هذا الفصل ذاك التكامل بين المقالات، حيث يعضد بعضها بعضا، ويفضي بعضها لبعض، مما يجعل القارئ الغريب عن الأدب فضلا عن المهتم به، يستطيع الخروج بانطباع شبه كامل عن الأدب واهتمامات أربابه. كالمقالات التي تناولت الحديث عن الوضع النفسي للأديب وما يعانيه من إحباط وانهزام، قد يفضي أحيانا للانتحار، وستجد هذا بمقالة (الإحباط الأدبي) لهاني الحجي، و(انهزام الثقافة والمثقفين) لخليل الفزيع، و(عزاء تافه) للدكتور عبد الفتاح كيليطو، و(غفلة الأدباء)أحمد عبد الرحمن العرفج، ثم (نزعات الانتحار عند المبدعين) لمحمد جابر الأنصاري.
من القضايا التي أثارها الفصل كذلك التواصل بين القارئ والكاتب، وتأثير وسائل التواصل الحديثة سلبا وإيجابا على هذه العلاقة، وكذا مسألة (الإبداع بين الجنون والعبقرية) و(حمّى نوبل)، وغيرها من القضايا المثيرة، ليخلص في النهاية إلى زبدة القول وفيصل الكلام في (الأدب الذي نريده) للمتألق وديع فلسطين، فأي أدب نريده؟
إننا نريد -كما قال وديع- أدبا أصيلا غير زائف، نريد أدبا بعيدا عن الغوغائية والدهمائية، أدبا قائدا لا مقودا، أدبا يبني ولا يهدم، أدبا حرا غير مستعبد ولا أسير للتقليد. وإلا لا حاجة لنا بالأدب المجرد من الأدب !!
وبعد -أخي القارئ / الكاتب- هذه إطلالة سريعة على كتاب “زاد الأديب” للمبدع المغربي ربيع السملالي، أحببت من خلالها أن آخذك في نزهة سريعة لاقتطاف بعض أزهاره، جولة لن تغني عن تصفح الكتاب، إذ به درر ثمينة تحتاجها أخي الكاتب / القارئ، قد قرأت الكتاب مرتين، ورغم طول مقالاته فإنك لا تشعر بالملل لتنوعها أسلوبا وفكرا. فبارك الله فيمن جمعها وجعلها سهلة المنال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *