حدّ الجوار في الشرع

جاءت نصوص الشريعة في الكتاب والسنة بالوصية بالجار، والتأكيد على حقه، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) النساء/36.
وروى البخاري (5185)، ومسلم (47) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِي جَارَهُ).
وروى البخاري (6015)، ومسلم (2625) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ).
وقد اختلف العلماء في حد الجار، فذهب بعض العلماء إلى أنه محدد بالشرع:
أربعون دارا من كل جهة.
وذهب آخرون إلى أنه محدد باللغة، فالجار هو الملاصق فقط.
وقيل: أهل كل مسجد جيران…
وقيل: أهل الحي، وقيل: أهل المدينة… وقيل غير ذلك.
ففي “مغني المحتاج” (4/95): “وَالجِيرَانٌ أربعون دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَيَدُلُّ لَهُ خَبَرُ: (حَقُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ قُدَّامًا وَخَلْفًا وَيَمِينًا وَشَمَالًا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مُرْسَلًا، وَلَهُ طُرُقٌ تُقَوِّيه [الحديث ضعفه الألباني، راجع “الإرواء” (6/100)].
وَقِيلَ: الْجَارُ مَنْ لَاصَقَ دَارِهِ.
وَقِيلَ: أَهْلُ الْمَحَلَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا.
وَقِيلَ: الْمُلَاصِقُ وَالْمُقَابِلُ.
وَقِيلَ: أَهْلُ الزُّقَاقِ غَيْرِ النَّافِذِ.
وَقِيلَ: مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ دَرْبٌ يُغْلَقُ.
وَقِيلَ: مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ: قَبِيلَتُهُ.
وَقِيلَ: جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) [الأحزاب:60]” انتهى.
وذهب بعض العلماء إلى أن الجار لا تحديد له، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف.
قال ابن عابدين رحمه الله في حاشيته (2/259):
“والجار عرفا: الملاصق، أو من يسكن في المحلة” انتهى. [والمحلة: المكان تنزله القبيلة وتقيم فيه، وهو أشبه بالحي الصغير].
وذكر المرداوي في “الإنصاف” الاختلاف في هذا ثم قال (11/256):
“وَقِيلَ: يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ.
قُلْت (المرداوي): وَهُوَ الصَّوَابُ، إنْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ” انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله: “وَإِنْ وَصَّى لِجِيرَانِهِ، فَهُمْ أَهْلُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ الدَّارُ وَالدَّارَانِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْجِيرَانُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ إنْ جَمَعَهُمْ مَسْجِدٌ، فَإِنْ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فِي مَسْجِدَيْنِ صَغِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَالْجَمِيعُ جِيرَانٌ، وَإِنْ كَانَا عَظِيمَيْنِ، فَكُلُّ أَهْلِ مَسْجِدٍ جِيرَانٌ، وَأَمَّا الْأَمْصَارُ الَّتِي فِيهَا الْقَبَائِلُ، فَالْجِوَارُ عَلَى الْأَفْخَاذِ [الأفخاذ هي فروع من القبائل].
ثم ذكر حديث: (الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا، هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ثم قال: “وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إنْ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُت الْخَبَرُ، فَالْجَارُ هُوَ الْمُقَارِبُ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ” انتهى من “المغني” (6/ 233). وينظر: “فتح الباري” (10/ 447)، “الموسوعة الفقهية” (16/ 217).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: “اختلف العلماء في حد الجوار على أقوال ذكرها في “الفتح” (10/367)، وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين: ضعيف لا يصح. فالظاهر: أن الصواب تحديده بالعرف” انتهى من “سلسلة الأحاديث الضعيفة” (1/ 446).
والحاصل:
أن الجار هو القريب منك، وهذا يشمل الملاصق باتفاق العلماء، وما زاد على ذلك فيرجع فيه إلى العرف.
وأما القول بأن أهل الحي كلهم جيران، فهو قول لبعض العلماء، كما تقدم (أبو يوسف صاحب أبي حنيفة)، ولكن الأحياء قديما كانت صغيرة، ولهذا قال: إن جمعهم مسجد صغير أو مسجدان.
والله تعالى أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *