بعد أن فتح الله للمسلمين بلاد خراسان وفارس وما يليهما، وقع تماس فكري وديني مع طوائف من الوثنيين والملاحدة الآسيويين، وكان منهم طائفة تسمى “السمنية”، ويرجح بعض الباحثين الآسيويين المسلمين وفق ما نُقل عن هؤلاء الملاحدة من عقائد ومقالات أن يكونوا على عقيدة التصوف البوذي الباطني، وقد وصل مستوى التماس بينهما إلى تأثر بعض المسلمين بعادات وتقاليد هؤلاء الوثنيين، بل ببعض مقالاتهم وعقائدهم، وقد كانت الحملات التبشيرية لهذه الطائفة قد بلغت مصر وربما ما بعدها، وانتشرت ثقافتها وعاداتها بين الأمم التي اندسوا فيها، وقد بلغ انتشار أفكار هذه الطائفة أوروبا، فقد عرف عن بعض كبار متأخري فلاسفتها التأثر بعقائدها وفلسفتها مثل شوبنهاور ونيتشه وآخرين.
تقوم البوذية على فكرة صوفية أساسها التأمل “la Méditation”، مع فلسفة أخلاقية خاصة لبلوغ حالة الفناء والنيرفانا التي حصلها -وفق الأسطورة- بوذا بالجوع والسهر والخلوة والصمت جالسا تحت شجرة، ويلزم المريد السالك منهم لطريق النيرفانا واليقظة شيخا مربيا واحدا يسلم أمره له ليعينه على التخلص من سلطة المادة والبدن، والاتحاد بالكائن المقدس المشاع في العالم، فيمارس التأمل في ما يشبه الخلوة التي تكون جماعية أحيانا، ثم يردف ذلك بوظائف وأذكار خاصة “les sutra”، للاستعانة بها على التأمل، ويعتمد التصوف البوذي على التجربة الشخصية لا على النصوص المدونة، وتعد مع ذلك منهجا في الحياة اليومية.
ومن أشهر طرقه تلك المعروفة باسم “الزِّن”-“Zen” بفرعيها، وهي طريقة بوذية يابانية الأصل، ولعلها الأكثر باطنية، ويحسن التنبيه على أن السالك المتقدم في البوذية يحصل نوعا من العلاقة بل التعلق بالجن والشياطين، والتي تمكنه من بعض القوى والتصرفات كالاطلاع على الخواطر والطيران ومعرفة الغيب المقيد كحال كل المذاهب الباطنية، وثم نظريات تتحدث عن “عنف وإرهاب” باطن وكامن في الفكر البوذي تحت غطاء دعوى التسامح والرحمة والمحبة!
البوذية في المغرب
هل في المغرب بوذية؟ قد يُظن أنه من المبكر بل من التوهم الحديث عن بوذية مغربية، لكن الوقائع والأحداث تدل على أن الأمر جدي وخطير، فبعد أن صارت فرنسا مرتعا للفكر البوذي بكل أنواعه، فقد انتشرت معابده في زوايا المدن الفرنسية، وتخرج كثير من الفرنسيين على شيوخ آسيويين وجدت البوذية طريقها إلى كثير من الدول الأفريقية مثل كينيا التي احتفل فيها سنة 2012 بأحد المواسم البوذية اليابانية.
ولم يكن المغرب في منأى من كل هذا، فقد تسرب الفكر البوذي وممارساته وعاداته إلى مدينة الدار البيضاء حيث يوجد مركز أو معبد يقوم عليه شيخ “Maitre”مغربي، وهو رئيس “Association Zen au Maroc”!! وتلميذ للشيخ البوذي “Taisen Dechimaro”، ويحاول هذا الشيخ البيضاوي “مغربة” البوذية، فقد استبدل مثلا “القندورة السوداء” بـ”الكيمونو” الياباني الأسود المميز لبوذية “الزِّن”، كما يوجد في جهة زاكورة مجمع سياحي لاستقبال الراغبين في السكينة الروحية، يُمارس فيها أنواع من التأمل البوذي، بل على طريقة المتصوف الهندوسي “Osho” الذي ينبني التأمل عنده على الرقص الجماعي، وتقوم عليه إحدى الألمانيات، كما يوجد في مراكش أيضا مؤسسة تسمي نفسها “Terre d’éveil”، تقيم حصصا للتأمل الهندي، وتستجلب لها شيوخا بوذيين من فرنسا بالمقابل المادي!!
ليس هذا أول تعرف للمغاربة بالبوذية، فقد كان ابن عربي الحاتمي الصوفي على ما يظهر عارفا بحقيقة البوذية، ولم أر أحدا -على قدر اطلاعي- نبه على مثل هذا، فقد كان ابن عربي حريصا على التعرف على المذاهب الوثنية، مثل حرصه على لقاء عبدة الشمس كما يذكره في الفتوحات، وأما البوذية فثم نص مشهور النسبة له، فيه إشارة لطيفة وخفية للبوذية، وهو قوله:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة ** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني
وموضع الشاهد في هذه الأبيات قوله “فمرعى لغزلان”، والباحثون في الفكر البوذي خاصة يعرفون ما يعنيه هذا، فإن بوذا كان يعلم مريديه في حديقة اشتهرت بحديقة الغزلان، ولذلك يرمز للبوذية بعجلة يرسم حولها غزالتان، وهو دلالة على أنها كانت أول شهود عيان على مواعظه!!
البوذية والتصوف
من الأمور التي لفتت نظر الباحثين المتخصصين في تاريخ الأديان وجود تشابه وتقارب معرفي وسلوكي بين التصوف عند المسلمين وبين البوذية، خاصة بوذية “الزِّن”، فقد بين هذا بتفصيل مثير الأستاذ بجامعة طوكيو، البوذي الياباني “Kojiko Nakamura” في محاضرة له بمناسبة الذكرى المائوية للطريقة العلوية سنة 2009م، وقد نبه أولا على أنه تعرف على التصوف في الإسلام عن طريق أبي حامد الغزالي، ومن طريقه استطاع ملاحظة أوجه التشابه الكبيرة بين الطريقتين، بل استحضر أيضا نصوصا لابن عربي، وقارن المفاهيم التي ينبني عليها السلوك الصوفي عند بعض المسلمين مع المفاهيم المؤسسة للفكر البوذي، ومن ذلك مفهوم الشيخ والمريد، وسلسلة التربية، والفناء الصوفي واليقظة البوذية والاتصال بالروح المتجلية في كل شيء أو الطاقة، بل ذكر أن الممارسة البوذية على طريقة “الزِّن” يلتمس بها تحصيل نوع من الوحي والإلهام على حد تعبيره كما هو حال التصوف عند بعض المسلمين.
انتبه المنتمون إلى التصوف البوذي في المغرب إلى هذا التشابه، فكتب الشيخ البيضاوي المذكور سابقا مقالا في “le Maroc Diplomatique” عرف فيه ببوذية “الزِّن”، ثم أشار إلى توافق هذه الطريقة البوذية مع الثقافة المغربية، خصوصا مع التصوف الطرقي، ثم نبه على أن البوذية في طريقها إلى التجذر في المجتمع المغربي، ويبدو أن الرجل واع بما يقوله!
بوذي فيتنامي، على طريقة صوفية مغربية!
سيدي ميشيل، هكذا يناديه صوفية بعض الطرق الصوفية المغربية على أساس أنه مريد فيها، واسمه الكامل “Michel tao chan”، لكن الغريب أنه لا يزال مريدا بوذيا أيضا على ما يبدو، وقد اعترف هذا المريد بأنه لا يلتزم طريق “x” أو”y” أو”z”، إنما قصده “الطريق”، ووفق تعبيره “La Voie”، وهذا مفهوم باطني معروف، ولذلك نبه على أن اسمه “Tao” يشير إلى إحدى كبرى المدارس الفلسفية الصينية وهي “الطاوية” وأن “Chan” يشير إلى فلسفة التأمل الآسيوية، ومما يثير الاستغراب أن هذا المريد رغم انتمائه في الظاهر لإحدى الطرق الصوفية المغربية فإنه يعد في المحافل الدولية ممثلا للبوذية كما حصل في فرنسا سنة 2016 بمناسبة “Intenational day of families”، وفي يناير سنة 2017 في فرنسا أيضا في لقاء بين ممثلي الأديان في العالم مع الإعلامية “VassulaPeter Bannister”!!
من حقنا الآن أن نتساءل، ما الذي يعنيه وجود معبد ومنتجعات للتأمل البوذي في المغرب، ألم تنتبه السلطات بعد إلى أن البوذية فلسفة وعقيدة إلحادية مخالفة للإسلام رغم محاولات من داخل هذه العقيدة من هنا وهناك لاستحمار الفئة المستهدفة من المغاربة في عقيدتها وجيوبها، عبر الكذب والتدليس، وكأنه ليس في المغرب من يعرف حقيقة هذه الممارسات الوثنية الشيطانية، ثم ما الذي يعنيه هذا التقارب الظاهر والرسمي بين الطرق الصوفية في المغرب العربي وبين البوذية، وأين نحن من التسرب البوذي الكبير في أفريقيا، هل يدخل هذا تحت توسع سياسي واقتصادي للصين وأقمارها الدائرة في فلكها بقناع فكري؟ هل يرجع هذا التسرب السهل إلى “نظرية” وحدة الأديان التي يروج لها كثير من المفكرين؟ أو يرجع إلى كونه من سلبيات التبعية العمياء لبعض التوجهات الفكرية المغربية للفكر الغربي الفرنسي؟
هذه وغيرها من الأسئلة تستحق الوقوف معها طويلا، توصيفا وتحليلا، للوصول إلى استنتاجات من شأنها أن تضع العالم والمفكر والسياسي المغربي المسلم على الطريق الصحيح في التعامل مع الظاهرة التي بدأت فيوضع اللبنات الأولى مستغلة جهل طبقة واسعة من المغاربة بحقيقتها مع جهل بالإسلام وعقيدته حتى لا يتسع الخرق على الراقع، ويكفيني هذا التنبيه، وأحتفظ بالمعطيات والمعلومات إلى وقت الحاجة، والله المستعان.