ويحمان.. عندما يهان حرس الحدود ويعنفون بسبب الحضور الصهيوني

 

يقطع من له دراية بالتاريخ وانهيار الأمم، أن الدول لا تسقط لأنها انهزمت في الحروب المسلحة، وإنما تسقط لأن أغلب حدودها غير محروسة بالشكل الكافي الذي يوفر لها الأمن العام، بمختلف مستوياته، والمتعدد من حيث المعنى والمبنى.

فالحدود منها المادية، وتمثلها البرية والجوية والبحرية، ومنها الحدود اللامادية، وأهمها الحدود الثقافية والاجتماعية والدينية.

وكما أن هناك سياسة جمركية توفر الحماية للمنتوج الوطني، وهناك حرسٌ للحدود وعساكر بدباباتهم يحمون الثغور ضد جيوش العدو، وأمنٌ يراقب الجوازات، وسلطات تعطي التأشيرات والتراخيص لدخول الأجانب إلى التراب الوطني، فكذلك هناك حرس وعساكر ورجال أمن يحرسون حدود الهوية.

فهذه الحدود الهوياتية التي يدخل منها كل الأعداء هي حدود لا تقل أهمية ولا خطرا عن الحدود المادية الأخرى، فعبر الحدود الهوياتية يتسلل الأعداء الذين يرومون إسقاط دين الشعب وحضارته وهويته التي تشكل الجانب الأقوى في مقومات الدولة.

ولنا أن نتساءل كم هي عدد الجيوش التي تخترق هذه الحدود يوميا، بقبعات مختلفة وكثيرة؟؟

كم عدد الناشطين الجمعويين الأجانب الذي يشتغلون في ميادين الثقافة والفن  والبحث العلمي وغيرها؟؟

كم هي الشركات التي تتغلغل في مفاصل الاقتصاد المغربي يوميا لتكتسب في النهاية قوة تهيمن بها على القرارات السيادية أو على الأقل تؤثر في وضع السياسات العمومية؟؟

من يعرف أن البعثة العلمية الفرنسية التي جابت كل أنحاء المغرب قبل الاحتلال هي التي استند إليها المقيمون العامُّون في غزو المغرب، فلن يتهمنا بالتهويل ولا المبالغة، بل سيعلم يقينا أن الغرب بصهاينته وعلمانيته ونصرانييه لا يميز في الغزو والهيمنة بين الراهب والتاجر والباحث والطبيب والعسكري.  ومن شاء فليراجع تقديم الجنرال ليوطي لكتاب “بول شاتنيير” الطبيب الذي كان في بعثة سوس العسكرية ومات في وباء تيفوس بعدها، والذي يوجد قبره اليوم في حديقة المستشفى الكبير بمدينة تارودانت عن يمين الداخل وقد نصب فوقه صليب كبير لافت للنظر.

وبدون إطراء ولا مجازفة في المديح، يمكن أن نعتبر الأستاذ الدكتور  أحمد ويحمان من أشجع الجنود المناضلين الذين يستميتون في حراسة حدود المغرب الهوياتية دون أجر ولا مقابل، يدافع عن القضايا الكبرى للشعب المغربي، وطني شهم من طينة قل المعجونون بها في هذا الزمن، مسكون بحب بلاده حد العشق، كاره أشد الكره للكيان الصهيوني المغتصب، يحس بفلسطين تسري في عروقه، تسمع كلماتِه تحس بالصِّدق في اللهجة، لا يعادله إلا صدقه في المواقف، وهو حقوقي قل نظيره في زمن اللامعنى.

هذا الأخ والمناضل الشهم ويحمان ويا للأسف رأيناه يتعرض للعنف والمعاملة الشرسة من طرف رجال السلطة المحلية، عند قيامه بالاحتجاج هو وإخوانه في المرصد المغربي لمناهضة التطبيع وأشقاؤه في حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) على الترخيص لشركة صهيونية متخصصة في الفلاحة بمعرض التمور المقام سنويا في أرفود، وتظهر التسجيلات أن الدكتور ويحمان قد تعرض للضرب والإهانة والعنف، الأمر الذي جعله يدفع عن نفسه وابل اللكمات والركلات، فأصاب وجه رجل سلطة هو من بدأ الركل والضرب والإهانة.

لست أستوعب كيف يتم التعامل مع الدكتور السوسيولوجي المناضل ويحمان بكل هذا العنف وكل هذه القوة.

الشهم ويحمان يعتبر فعل الترخيص للشركة الصهيونية جريمة مخالفة لإرادة المغاربة حكومة وشعبا، وهذا ما يعطي لاحتجاجه هو وإخوانه مشروعية كاملة، فمن أين يستمد رجل السلطة الذي عنفه مشروعية منعه من الاحتجاح، بله ضربه وتعنيفه؟

ويحمان ومن كان معه، كانوا ينوبون عن الشعب المغربي هناك، حيث قاموا “برصد وتوثيق الجريمة التطبيعية المشؤومة”؛ الأمر الذي لا يسعنا معه إلا أن نشجب ونرفض الطريقة التي تم تعامل بها من طرف السلطة وأعوانها مع النشطاء المدنيين خاصة ما تعرض له د. أحمد ويحمان والأستاذتان مريم العسال والسعدية الوالوس، من تنكيل بالضرب والسحل بأرضية رواق الشركة الصهيونية “NETAFIM”.

ما هي الرسالة التي يتوصل بها المتابعون لما جرى؟؟

هل أصبحنا داعمين لاقتصاد دولة الكيان المغتصب لفلسطين والقدس؟؟

هل بلغت مرحلة ما قبل التطبيع المعلن ذروتها؟؟

هل سلطات المغرب تمارس عليها ضغوط تجعلها تعتقل من يحتج على تسرب شركات كبيرة للكيان الصهيوني إلى الأسواق المغربية؟؟

كلها أسئلة تصفعك وأنت ترى الدكتور ويحمان مدَّدا على الأرض يركل من طرف رجلٍ المفروض فيه أنه رجل يحفظ الأمن وفق مقتضيات القانون، لا رجلا يخل بالأمن ويعتدي جسديا على حرس حدود الهوية.

إن الصهيونية لا تَحمِل في وجه دول العالم الإسلامي الرشاشات ولا تدخل بلدانهم بالمدافع والعساكر، وإنما تستحوذ على اقتصادات الدول خارجيا بالقروض، وداخليا بالاستثمار في ميادين المال والأعمال، لكن بمنهج الاستحواذ والتغلب والهيمنة، المخضعة في النهاية للدولة وقرارتها السيادية.

لا يمكن ألا يكون مَن هُم في المستوى الأعلى لاتخاذ القرارات على وعي بخطورة التغلغل الاقتصادي والثقافي الصهيوني في بلادنا.

فالحذر من هذا النوع من التغلغل كان حاضرا على المستوى الأعلى في الحكم إبان ولاية السلطان المولى الحسن الأول، فقد أورد الأستاذ العظيم السيد عبد الله الجراري رحمه الله تعالى في كتابه “شذرات تاريخية” ما يلي:

(ومن الشذرات التاريخية في عهد المولى حسن الأول طيب الله ثراه، أنه عندما طلبت منه بعض دول أوروبا الإنجليز وفرنسا وسواهما، إصدار بعض المنتجات ووسقها لبلادهم كالحبوب والبقر والخيل الذكر والصوف وألحوا عليه في الطلب؛ ذكر معنى الوارد عنه عليه السلام: “يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل ويقول: ‏ليتني مكانك!”؛ قال العاهل رحمة الله عليه: “وأنا ذلك الرجل”.

يتابع الجراري معلقا: وإن دل ‏هذا على شيء فإنه يدل على تشبث السلطان الحسن الأول بمبادئ دينه الحنيف وحرية بلاده، بعيدا ما أمكن عن معاملة أولائك النصارى، الذين يَعلم عنهم مسبقا ما تهدف إليه معاملتهم من تدرج وحيل لابتزاز خيرات المغرب وكنوزه، وبأصناف من هذه الطرق، حتى إذا ما واتتهم الفرصة للانقضاض عليه فعلوا غير آبهين ولا مبالين بما يكون أبرم بين الطرفين من وثائق وعهود على قدم المساواة كدولة لها ذاتيتها وسيادتها الموقرة والمقدرة بين الأمم والشعوب؛ فكان برد الله ثراه يرى بعيدا، ويتوقع مدى ما ترمي إليه نوايا تلك الدول).

ثم ذكر في الهامش ما يلي:

“واستفتى في الطلب علماءَ فاس فأفتاه ستة عشر منهم السادة: جعفر بن إدريس الكتاني، وَعَبد الهادي الصقلي، والطيب ابن كيران، وأبو العباس بن الخياط، وَعَبد الملك العلوي الضرير: بالمنع وعلى شروط إن اقتضى الحال حسب المطلوب وسْقُه من حيوان وغيره، على أن يكون للعاهل الحسني واسع النظر”.

هذا النص التاريخي البليغ وما تبعه من سياسة للشركات الأوربية الغازية اقتصاديا وكذا سياسات القنصليات الأجنبية التي اخترقت سيادة المغرب من خلال الحمايات القنصلية، وما آل إليه الأمر من فرض الحماية الفرنسية واستمرار الاحتلال بعدها عقودا لازلنا نعاني من آثارها في كل الميادين، يدلنا هذا كله على أن كل تهاون في الصد الواعي الحازم للاختراق الصهيوني للحدود الاقتصادية والثقافية والجمعوية، سندفع ثمنه غاليا في المستقبل المتوسط وليس البعيد.

فالمجهودات التي يبذلها أمثال السيد ويحمان من المناضلين الشرفاء الذي يحرسون حدودنا ليل نهار، وما وقفوا عليه من اختراقات تجعلنا أمام واجب مؤازرتهم والمطالبة بالإفراج الفوري عنه، بل ندعو إلى توشيحه بأكبر أوسمة الشرف، تثمينا لمجهوداته هو وإخوانه المناضلون الذين لا تحركهم سوى حماية البلاد والغيرة على هوية الوطن وثقافته والوقوف بجانب قضاياه العادلة، والتي تقع قضية فلسطين في صلبها.

الدكتور ويحمان ونائبه الأستاذ المناضل عزيز هناوي ومن معهم من إخوانهم وأخواتهم، هم من كشفوا ملفات عدة قضايا لا أعتبرها تطبيعا فقط، بل هي حرب ثقافية اقتصادية على سيادة الدولة والشعب معا، ومن أهمها:

– قضية عمليات التجنيد والتدريب التي كان يقوم بها “معهد ألفا” المرتبط بالكيان الصهيوني، لبعض المغاربة وإعدادهم للقيام بأعمال تخريبية في المغرب وقت اللزوم.

– قضية بناء نصب الهولوكست العملاق وملحقاته الكثيرة من طرف الصهيوني الألماني، والتي لم تجد طريقها إلى التسوية لغاية الساعة رغم الهدم الجزئي غير المؤثر الذي قامت به السلطات المحلية.

– قضية تنظيم حفلات الرقص والمشاركة في المهرجانات المختلفة لصهاينة معروفين بخدمتهم العسكرية في جيش الاحتلال الصهيوني.

لا أريد أن أطيل بسرد الأمثلة عن شهامة السيد أحمد ويحمان وتفانيه هو وإخوانه المناضلين في حماية البلاد وحراسة أمنها، نرجو من عقلاء الدولة والسلطات أن يتدخلوا في ملفه، وأن يكرموه بإطلاق سراحه وتشريفه، فإنما الدولة برجالها الشرفاء الذي لا يخافون من أن ينالهم الأذى في سبيل حمايتها، ولا يطمعون فيها ولا في امتيازاتها، بل على الدولة أن تيسر السبل وتوفر الدعم لمثل هؤلاء حتى يقوموا بدورهم النبيل الذي لا غنى لنا عنه في هذه الظروف التي يضغط بها الصهاينة من كل جانب.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

——————-

(*)  عبد الله الجراري “شذرات تاريخية” ص 12-13 ط 1؛ 1396هـ/1976م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *