التبرج والصيام؛ مفارقة وأية مفارقة؟! حمّاد القباج

إذا كان الجمع بين النقيضين ممتنعا في علم المنطق؛ فإنه ممكن في واقعنا، وقائم في مجتمعنا، الذي صار من أبرز صفاته؛ الجمع بين المتناقضات، وتفشي السلوكيات المتضاربات.

ولعل من أبرز أسباب اتصافه بتلك الصفة المذمومة، التي تشتت الجهد وتؤخر قافلة الإصلاح والتنمية؛ ما قام في مجتمعنا من صراع مفتعل بين تيارين:
أحدهما: يسعى أهله نحو إصلاح الأوضاع وتحسينها من منظور شرعي، ويعتقدون أن دين الله يستوعب كل عوامل الإصلاح وأسباب الفلاح.
والثاني: لا يرى أصحابه في الدين سببا من أسباب الإصلاح! بل منهم من يعتقد أنه من عوامل الضعف والتخلف!!
وكل يدعو إلى قناعته ويعمل على شاكلته، وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلا..
.. ليس غرضي من سياق الكلام المتقدم الحديث عن أصل الموضوع، بقدر ما أنني أهدف إلى التعليق على ظاهرة غريبة شرعا وعقلا –وإن لم تكن كذلك واقعا- ؛ وهي ما نراه في سائر مرافق مجتمعنا؛ من تلبس المسلمة الصائمة بمعصية التبرج ومجاهرتها بذلك:
فترى المسلمة ممسكة عن الطعام والشراب، وهي تمشي في الشارع وترتاد مرافق المجتمع المختلفة؛ مظهرة زينتها التي أمرها الله بسترها؛ من ساعد وذراع ورأس وعنق وساق، وربما فخذ ..!
وقد تزيد على ذلك خضوعا بالقول، وتمايلا في المشية، بل وربما فاحشا من الكلام ..
وهذا كله من التبرج الذي نهى الله عنه، ومعناه: (إظهار المرأة زينتها للرجل الأجنبي)، ولو كانت نيتها سليمة؛ إذ متعلَّق الحكم هنا: الفعل دون القصد…
وهناك من تخادع نفسها بوضع جلباب مزيَّن مع كشف الرأس والعنق، وأخرى تضع ثوبا على رأسها وتلبس (سروالا) أو (فستانا) أو نحو ذلك، مما لا يخرجها عن وصف التبرج؛ فإن هذا لا يتم إلا بالالتزام الحجاب الشرعي؛ المبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لقد اعتادت جماهير النساء هذا السلوك المشين (التبرج) على حين سكوت وغض خطيرين من الجهات الرسمية، المناط بها إرشاد الناس إلى واجباتهم الشرعية، وتحذيرهم من منكرات القول والسلوك..
أقول هذا وأنا مستحضر كون كثير من الخطباء والوعاظ يدندنون حول الموضوع، ويقومون ببعض الواجب فيه.
لكن ما وزن ذلك في زمن العولمة والتدفق المعلوماتي الذي ابتلينا به؟!
لماذا يُغَيّب خطاب هؤلاء في الإعلام، ومقررات التعليم، ونحوها من المنابر التي تصل كلمتها إلى كل الناس، وتتجدد أساليبها وتتنوع من أجل صبغ فكرهم بما يراد له من صبغة، وحمل سلوكهم على أنماط معينة؟
إن الظاهرة التي نتحدث عنها؛ تتجلى فيها صورة من صور ما أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟” (متفق عليه).
ومن أسوء ما اتصف به اليهود؛ أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض:
قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
ذكر المفسرون أن ” الفعل المذكور في هذه الآية، فِعْلٌ للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج -وهم الأنصار- كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفِرق الثلاث من فرق اليهود، بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة.
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود، فيقتل اليهودي اليهودي، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم؛ ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم، وجب عليهم فداؤه. فعملوا بالأخير وتركوا الأولَيْن، فأنكر الله عليهم ذلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو فداء الأسير {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج”.
.. وغير خاف أن الله سبحانه كما أمر بالصيام في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} (البقرة 185)
فإنه سبحانه أمر بالحجاب في قوله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} (الأحزاب 59)
وكما أن العلماء لم يختلفوا في دلالة النص الأول على وجوب صيام رمضان، فإنهم لم يختلفوا في دلالة النص الثاني على وجوب الحجاب، وإنما اختلفوا في بعض مسائله كما اختلفوا في بعض مسائل الصيام.
وإذا كان العلماء قد اتفقوا على تحريم الإفطار في رمضان إلا لعذر شرعي؛ فإنهم اتفقوا على تحريم التبرج مطلقا.
قال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب 33)
فلِمَ تؤمن (الصائمة المتبرجة) ببعض الكتاب وتكفر ببعض؟!
.. إنني أهتبل فرصة حلول الشهر المبارك الكريم، وما يصحب ذلك من تضاعف النفحات الربانية، وضعف النوازغ الشيطانية؛ لأتوجه بالنصح إلى كل مسلمة تريد الاستفادة من تقربها بعبادة الصيام، أن تجتنب ذلك السلوك الذي ارتقى في سلم الذم إلى أن أوقع صاحبته في مشابهة المغضوب عليهم، وبلغ ضرره بها إلى درجة حرمانها من ثواب الصيام وأجره:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”. (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
وقال: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه”. (متفق عليه)
وقد حمل العلماء ذلك على من يتعمد المعصية وهو صائم:
قال العلامة ابن العربي رحمه الله: “مقتضى هذا الحديث؛ أن من فعل ذلك لا يثاب على صيامه”.
ومعنى هذا -فيما نحن بصدده- أن المسلمة التي تجمع بين طاعة الصيام ومعصية التبرج، وإن كانت تبرأ ذمتها، فإنها لا تثاب على صومها.
وهذا نوع من الغبن والإفلاس؛ حيث لا تُحَصّل من تعبدها بالصيام إلا الجوع والعطش، ولا تنال من قيامها إلا السهر والتعب، أما الأجر والثواب فحرَمها منهما تبرجها.
بل ذهب بعض العلماء إلى حد القول ببطلان صيام من يتعمد المعصية:
قال العلامة ابن حزم الأندلسي رحمه الله: “ويُبْطِل الصومَ أيضا؛ تعمُّدُ كل معصية، إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه”.
وقال: “فكان من فعل شيئا من ذلك، لم يصم كما أُمر، ومن لم يصم كما أمر فلم يصم”…
فالله الله في صومك أيتها المسلمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *