وقفة متأنية مع جرجي زيدان
من خلال روايته “شجرة الدر”
د. عبد العزيز وصفي AZIZ ouasfi
لا العجب من عداء زيدان للعرب عموماً والمسلمين منهم خصوصاً، وهو رجل مطعون في وطنيته، حسب معظم الذين ناقشوا شخصيته، إنساناً ومؤرخاً وروائياً؟
ألم يُثبت هؤلاء، بما أوردوه من أدلة قاطعة أنه كان عميلاً للاستخبارات البريطانية في مصر، حين كانت خاضعة للاستعمار الإنجليزي، ثم مرافقاً للحملة الإنكليزية على السودان، عام 1884، تحت غطاء عمله كمترجم في قلم المخابرات البريطانية؟([1])، فهل أكثر من هذا المعطى دليلاً يؤكد صواب اتهام زيدان في وطنيته؟ وهل أقوى من هذا الاتهام برهاناً يؤكد تعمُّده تحريف تاريخ العرب والمسلمين وتزوير حقائق هذا التاريخ ووقائعه؟
وقد كان حرياً بمخلوقٍ هذه حقيقته التي كان يعيها ولاشك، أن يحاول سترها وإخفاءها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إن لم يكن حياءً ممن نصَّبَ نفسه راوياً لتاريخهم، فمن باب الذكاء على الأقل، حتى لا يفضح نفسه أمامهم كمزوِّر لهذا التاريخ ومحرِّف.
وقد فنّد العلماء كتبه وردّوا عليه بحجج قوية وأفحموه نقداً وبياناً، ولا يسعنا المقام لنقل ما كتبوه ونكتفي بإشارات سريعة تبين المراد مما نحن فيه، لنبين للقوم بأن مصادرهم مخرومة لا يعتمد عليها، وبالتالي فهي هباء منثور، لا يصمد أمام الحقائق التاريخية والعلمية الراسخة.
وفي هذه الوقفة الموجزة أنقل كلام بعض الناصحين والنقاد والعلماء المعاصرين الذي نخلوا أدب هذا المفتري، وهم بحمد الله كثرة كاثرة، لا يسعنا المقام للاستشهاد بأقوالهم ونصوصهم، وقد توجهت كلماتهم إلى كتب وروايات هذا النصراني، محذرةً منها، ومبينة انحرافاتها، ومما قاله الدكتور محمد السيد الوكيل في تقديمه لرسالة (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) بأنه : (من أشهر من افترى وزيَّف التاريخ الإسلامي في العصر الحديث… الذي استتر برداء العروبة وتوارى خلف شعارات القومية، ومهّد له الإعلام الغربي ليلعب دوره الطبيعي في كتابه التاريخ الإسلامي مشوَّهاً ومبتوراً يزينه بأسلوب رقيق ممتع، ويغلفه بعناوين زاهية براقة، ويقدمه في صورة قصة غرامية أخاذة)([2]).
وقد جعل هذا المفتري مسرح أحداث رواياته في الأديرة والكنائس، وجعل للرهبان والقسس دور التوجيه حيث الأمن والأمان والاحترام والطمأنينة، والرأي القويم السليم عندهم.
كما أضفى هالات مثالية على كل ما هو (مسيحي).. وسلط الأضواء على صور الصلبان والقديسين ومياه المعمودية المقدس.. وزيت مصباح الدير.. “الشفاء التام ببركة الماء المقدس وزيت المصباح وبركة صاحب الدير”.
ففي كتاب هذا المفتري الموسوم بـ (تاريخ مصر الحديث) تصدّى له كثير من الباحثين فتولوا كشف زيفه، ومنهم: الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني في كتابه: (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان)، وقد خطّأ فيه زيدان في مائة وواحد موضعاً.
أما رواياته التاريخية فقد خصص الدكتور شوقي أبو خليل كتابه الماتع (جرجي زيدان في الميزان) لبيان ما فيها من دسائس تاريخية بغيضة وفساد وإفساد. ولخّص في خاتمته أبرز انحرافاته في رواياته، اكتفي بإشارات منها، ومما قاله:
(وهكذا.. قدمنا ملاحظاتنا حول بعض روايات جرجي زيدان، التي تعمّد فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب عن سوء قصد، لا عن جهل، فلا ينقص جرجي العلم بعد أن أوهم قرّاءه أنه عاد إلى مصادر ومراجع عربية.. لكنه تعمّد التحريف، وتعمد الدس والتشويه، وتعمد فساد الاستنباط مع الطعن المدروس.. لعمالته الأجنبية، ولتعصبه الديني، الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي، وآداب اللغة العربية، بعين السخط والحقد.
ونحن في نقدنا الذي دوّناه فيما سبق.. لم نكن في موقف من يتصيد الأخطاء ويغمض عينه عن الصواب.. ولكننا كنا نبحث عن الصواب فلم نجده، فاخترنا من الأخطاء بعضها وأهمها..
ونحن لا نقول إن ما سجلناه هو كل ما يقال عن روايات جرجي، لا.. فمن يفتش يجد طعنات وأخطاء بقدر ما كتبناه وأكثر.. ولكننا أردناها لُقيْـمات تتذوقها من “طبخة” كبيرة طبخها جرجي من تاريخنا، وقدمها للأجيال…))([3]).
أما الأستاذ أنور الجندي فقد قال عن روايات زيدان:
(أما المجال الذي استطاع جرجي زيدان أن ينفث سمومه فيه بحرية؛ فهو مجال القصص، فقد ألف عدداً من القصص تحت اسم “روايات الإسلام”، دس فيها كثيراً من الدسائس والمؤامرات والأهواء، وحاول إفساد مفهوم الشخصية الإسلامية والبطولة الإسلامية، حيث أساء إساءة بالغة إلى أعلام من أمثال صلاح الدين الأيوبي، هارون الرشيد، السلطان عبد الحميد، عبد الرحمن الناصر، أحمد بن طولون، الأمين والمأمون، عبد الرحمن الداخل، شجرة الدر، وقد أقام تصوره على أساس خطير:
أولاً: تصوره للخلفاء والصحابة والتابعين بصورة الوصوليين الذي يريدون الوصول إلى الحكم بأي وسيلة، ولو كان على حساب الدين والخلق القويم مع تجريحهم واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات.
ثانياً: تزييف النصوص التي نقلها عن المؤرخين القدامى وحولها عن هدفها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين وبنى عليها قصصًا غرامية باطلة.
ثالثاً: استهدف من حشد القصص الغرامية ذات المواقف الُمسفّة داخل روايات “تاريخ الإسلام” إثارة غريزة الشباب وتحريك شهوة المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم وجهلهم بالغاية التي يرمي إليها في الروايات، مع الاستشهاد بالأبيات الشعرية المكشوفة الساقطة التي تحرك الغرائز الدنيا.
رابعاً: تبين من البحث الذي قدمه عالم أزهري درس باستفاضة روايات جرجي زيدان أن معظم الأحداث التاريخية في رواياته قد حرفت وبنيت على أساس فاسد…
وخلاصة ما يصل إليه البحث حول روايات جرجي زيدان:
1- تحويل مواقف الشخصيات التاريخية.
2- إثارة الشكوك حول البطولات الإسلامية.
3- تعمد إغفال الحوادث التاريخية المهمة.
4- إضفاء هالات مثالية على الأديرة والرهبان.
5- التلاعب بالمصادر والمراجع)([4]). انتهى كلام الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- باختصار شديد.
لا شكَّ أنَّ جرجي كان رائد الرواية التاريخيَّة في الأدب العربي الإسلامي، ولكنَّه لم يكن مدفوعًا بدافعٍ قومي أو إسلامي في الالتفات إلى التاريخ العربي الإسلامي، وفي اختياره موضوعاته الروائيَّة منه؛ ولذا تجنَّب صفحاته المشرقة وأمجاده العظيمة، ولجأ إلى تصوير مواقف الصِّراع السياسي على الحكم أو مواقف المغامرة والشغب([5])، فكان كمَن يدسُّ السمَّ في العسل.
إنَّ علم الاجتماع وعلم التاريخ -كما يقول الدكتور عبدالحميد بوزوينة- أثبَتَا أنَّ الأمَّة التي لا تاريخ لها ولا تراث مُهدَّدة بالذوبان في أُمَمٍ أخرى لها تاريخها وتُراثها، وبناءً على ذلك ظهرت مجهودات قصصيَّة هادفة تستَلهِم التاريخ، وتحاول أنْ تُعِيدَ لهذه الأجيال أمجادَ الماضي وبُطولات السلف الصالح؛ بغية غرس الصِّفات الإنسانيَّة الخالدة في النُّفوس لتَحصِينها من كُلِّ علل الانحِلال وأسباب الانقِياد الأعمى للآخَرين([6]).
وهذا ما فعَلَه علي أحمد باكثير – رحمه الله- في جميع أعماله.
———————————–
-[1] في الأدب الحديث، د. عمر الدسوقي، ج 1 ص 352، الحاشية 2، ط. الخامسة.
-[2] انظر: نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان، ص 6.
-[3] انظر كلام الدكتور شوقي أبو خليل، ص307-315، حيث قدّم لذلك أمثلة وأدلة قوية وواضحة من كل رواياته، فغربلها – جزاه الله خيراً- غربلة لا تحتاج إلى مزيد بيان، وراجع أيضاً في نفس السياق: جورجي زيدان وتوثيق التاريخ، محمد توفيق الصواف، مجلة الموقف الأدبي (مجلة أدبية شهرية يصدرها اتحاد الكتاب في سورية)، العدد 433، 2007م، ص ص 84-93.
-[4] انظر كتابه الشيق: إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 174-178.
-[5] اتجاهات الرواية التاريخية العربية في مصر، د. شفيع السيد، ص27.
-[6] نظرية الأدب في ضوء الإسلام، القسم الأول، د. عبدالحميد بوزوينة، ط1، 1990م، عمَّان، ص119.