إنِ ابتغيتَ خليلاً دُونكَ «كُنْ جميلا» ذة. لطيفة أسير

بين صخب الحروف التي باتت تتطاير في أفق فضاءات التواصل، وهرج الكثير من الأقلام التي تأبى إلا أن تُقحم ذاتها في مضمار سباق الكلمة، قلّ ما تجد قلما يحمل همّا وينشد إصلاحا، ويرنو لترميم ما تصدّع في هذي النفس الإنسانية. “كن جميلا” شرفة مشرقة تُطلّ من خلالها -أخي القارئ- على أدب جميل زينته حروف هادئة وجمّلته رؤى إنسانية نفتقر إليها في عالمنا الذي غلّفته الماديات ونأت به عن القيم الإنسانية الجميلة.
الكتاب خطّت حروفه وصاغت معانيه أنامل الكاتب محمود توفيق حسين، وهو عبارة عن شذرات قصيرة، تنسجم مع روح العصر والكتابة الأدبية الحديثة التي تميل للاختصار وتبليغ الرسائل بأيسر السبل، بعد أن فترت همّة القراء، وأضحت الكتابات المطولة تخيف الكثيرين، ولا يجرؤ عليها إلا أرباب الصنعة من أهل الحرف.
الذي أثارني في الكتاب ككل، تلك اللقطات البسيطة التي استطاع الكاتب اقتناصها ليجعل منها مادة حيوية شكلت شذرات الكتاب، وهي مواقف بسيطة تصادف الكثير منا في الحياة، ولكن نغفل عن دلالتها، أو نعدّها من توافه الأمور، لكن الكاتب استطاع ببراعة أن يكشف عن قيمتها وأثرها البعيد في سلوكنا وحياتنا وعلاقاتنا، وكما قال أحمد أمين: (كل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مسّ الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الأشياء فكرة بديعة، أو رأيا طريفا).
(كن جميلا) دعوة لإحياء قيم الجمال في كل شأن من شؤون حياتنا، وفي كل علاقة من علاقاتنا، داخل الأسرة، في العمل، في الشارع، في حالات الفرح، في الأحزان، في تدبير الخلافات.
(كن جميلا) همسات رقيقة في أذن الزوج، الزوجة، الابن، والبنت، الموظف، المدير، العامل، السائق والراجل.
(كن جميلا) خطاب بسيط، بلغة بسيطة وهادفة ونافذة لأنها تعيش الحدث وتتعايش معه، كأنها كاميرا تجوب أروقة الشوارع والحارات والبيوت لتعكس مكامن الخلل والتوتر في عالمنا المتأزّم.
في حديثه عن الأسرة بدأ الأستاذ محمود توفيق بتوجيه الخطاب للآباء، فدعاهم للاهتمام بتربية الأطفال منذ الصغر والحرص على تأديبهم وغرس قيم الاستقامة في نفوسهم، والعدل في المعاملة بينهم ذكورا وإناثا، مؤكدا أن جوع الأبناء لتقدير الآباء أكبر من جوعهم للطعام، وحاجتهم للاهتمام والرعاية الروحية والنفسية أشد من حاجتهم للرعاية الجسدية، وقد أشار لهذا من خلال تسليط الضوء على بعض سلوكيات الآباء التي قد تبدو في نظرهم بسيطة وغير ذات أهمية لكنها في العمق تبقى لها دلالاتها ككسر الطفل للعبة بسوبر ماركت أو التقاط تمرة في غفلة عن البائع.
كما وجه رسائل للزوج مستحثّا إياه على حسن معاملته زوجته والنظر في بعض سلوكياته التي غالبا ما تكون سببا في الكثير من النزاعات رغم تفاهتها، مؤكدا أن جمال القوامة والسيادة ليس في الإثناء (بل جمال السيادة في الاستثناء).
ولأن الرجل الشرقي كثيرا ما يضيق ذرعا بزوجته حين يتقدم بها العمر، أو يتآكل جمالها ورونقها بفعل الضغوط الحياتية داخل وخارج المنزل، فينكّد عيشها بكثرة سخطه وتلميحاته الجارحة، فقد خصص له الكاتب شذرات عدة داعيا إياه إلى حفظ جميل زوجته الكادحة ومراعاة العشرة وعدم النظر إليها باشمئزاز وهو يرى أنوثتها تذبل في سبيل السهر على راحته، وما أجمل قوله: (إن هذه اليد التي ضاعت أنوثتها في عصمتك وفي خدمتك، تستحق منك اليوم أن تربت عليها من باب العرفان).
وعلى ذات الخطى وجّه نصائح للزوجة فدعاها لقطع دابر الذكريات مع الماضي عند الارتباط والزواج، مهما كان الشيء المحتفظ به بسيطا كقارورة عطر، لأن ذلك شكل من أشكال الخيانة، مؤكدا أن (وفاء المرأة لزوجها قمة الأنوثة).
وللحماة حظ ونصيب من هذا التوجيه ودعوة كريمة لحسن معاملة زوجة ابنها التي تأخر إنجابها وتجنب إحراجها في أمور لا تملك سبيلا لتحقيقها.
ولأن العلاقات النسائية كثيرا ما تتوتر لأمور سطحية، فقد كانت لهن شذرات خاصة، وهمسات واضحة لتجنب بعضها خلال الثرثرات النسائية.
وبالكتاب كذلك همسات إيمانية كتلك التي وجهها للفتاة المحجبة حديثا، منبها إياها إلى ضرورة الثبات وعدم الاهتمام بأمور شكلية طفيفة قد تعكر صفة التزام بعض الفتيات (لا تفكري كثيرا في البتور بل فكري فيما أنت عليه من قصور). إلى جانب الحديث عن بعض التصرفات التي تقع للمصلي أثناء صلاته فتفقده الخشوع والاطمئنان.
وللأجراء والموظفين والعمال قسط ونصيب من هذه التوجيهات من أجل ضمان علاقات إنسانية على قدر من الرقي والاحترام واللطف كما أوصى بذلك ديننا الحنيف، وللسائقين والراجلين بعض الأدبيات والذوقيات في استعمال الطريق.
(إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لذا فارتقاؤنا رهين بتغيير نمط حياتنا، وتعديل سلوكاتنا، والاعتصام بديننا الحنيف الذي يحوي لبّ الذوقيات في الحياة العامة والخاصة، والتغيير الحقيقي يجب أن ينطلق من ذواتنا ومن أبسط تصرفاتنا عسى يوما نبلغ المجد الذي أضعناه (فكر بأن هؤلاء الذين يجعجعون لكون بلادهم بدأت مع اليابان وقبل ماليزيا، ولم تستطع أن تتطور وأن تستمر في تحقيق خطط التنمية التي وعد بها القادة، ويشتكون من انعدام التراكم بها وغياب روح التعاون والبناء، وأنها ثرثارة -هذه البلاد- تبدأ مع شمس كل يوم جديد عبر الراديو في التحميس للتنمية والنهوض، هم أنفسهم يتركون آثار أحذيتهم لماسح البلاط في الصبح كي يبدأ من جديد).
فتحية لهذه الروح الإنسانية التي تحمل همّ الإصلاح في زمنٍ فسد أهله، واستأنسوا بغفلتهم حدّ الانتشاء بالضياع!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *